جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الشيخ أحمد الرزيقى.. عبقرى التلاوة«1-3»





الشيخ أحمد الرزيقى «١٨ فبراير ١٩٣٨- ٨ ديسمبر ٢٠٠٥»، قارئ قرآن مصرى، ويُعد أحد أعلام هذا المجال البارزين، من مواليد قرية الرزيقات التابعة لمركز أرمنت بمحافظة قنا، «محافظة الأقصر حاليًا»، التحق بالمدارس فى بلدته، وفى عام ١٩٥١م وقت أن كان طفلًا، وكان ذاهبًا إلى المدرسة فى أحد الأيام، وجد عددًا من الناس يجلسون على الحصر فى الشارع وأمامهم الراديو، وعندما سأل عن السبب قالوا إنهم ينتظرون تلاوة ابن قريتهم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد فى الراديو، وهنا الطفل دارت الأمور برأسه دورانًا خالصًا، لسان حاله يقول بصوت داخلى يهز المشاعر: «إذا كان هذا الحب، وهذا التفانى، وهذا الانتظار من أجل الشيخ عبدالباسط الذى وصل إلى قمة المجد، فما المانع من أن أكون مثله؟ إذا كان قد حفظ القرآن فإن شاء الله سأحفظ القرآن مثله! وإذا كان صوته جميلًا فهذا ليس على الله بعزيز».
لحظات وانطلق صوت المذيع معلنًا عن اسم القارئ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، إذا بالجميع وكأن الطير على رءوسهم، لا ينطق اللسان، ولكن القلوب تهتف وتتراقص طربًا واستحسانًا لابن بلدهم حسن الصوت، وبعد انتهاء التلاوة تبادل الحاضرون فيما بينهم عبارات التهانى والفخر والسرور، وانصرف الشيخ أحمد من بينهم دون أن يشعر به أحد، ليغير طريق حياته قبل أن يغير طريق الوصول إلى المدرسة.
ومن يومها ترك المدرسة وذهب إلى كُتاب القرية، وامتنع الشيخ الرزيقى عن الذهاب إلى المدرسة دون علم أهله حتى جاء إنذار بالفصل، وهنا اعترف لأبيه، الذى لم يحتد عليه وإنما تسامح معه طالما هذه هى رغبته، بل وأحضر له جهاز راديو ليستمع إلى التلاوات.
كان الشيخ أحمد حريصًا على متابعة مشاهير القراء عن طريق الإذاعة وبالأماكن التى يسهرون فيها فى الصعيد، ليتعلم منهم ويقتدى بهم، وبعد أن حفظ القرآن كاملًا وهو ابن العاشرة، كان الشيخ أحمد يحاول تقليدهم فيحضر زجاجة لمبة الجاز نمرة «٥» ويضعها على فمه ويقرأ بها، لتكون كالميكرفون وتُحدث صوتًا يساعده على القراءة، يقول الشيخ أحمد الرزيقى: «مثلًا كنت أضع للشيخ أبوالعينين شعيشع صورة معينة فى خيالى، ولكننى لما رأيته تعجبت لأننى كنت متخيلًا أن هؤلاء الكواكب والنجوم الزاهرة ليسوا كمثلنا، ولكن كالملائكة، ولما قابلت الشيخ أبوالعينين قلت له: الحقيقة غير الخيال، كنت متخيلًا أنك فى جمال سيدنا يوسف، وضحكنا أنا والقمر الذى يضىء دنيا القراءة السيد النقيب صاحب الفضيلة الشيخ أبوالعينين شعيشع».
وصادفت زيارة للشيخ عبدالباسط للقرية وقابل أحمد الرزيقى وعرف بقصته وأوصاه بتعلم التجويد والقراءات على يد الشيخ محمد سليم حمادة، فذهب الرزيقى إليه وأصبح يتردد معه على ليالى القراءة، حتى قدمه الشيخ حمادة للقراءة على أنه «البلبل الصغير»، وبدأ يذيع صوته.
أقام الشيخ الرزيقى فى الأقصر فى الفترة «١٩٦١- ١٩٧٤»، وفى ذلك العام ١٩٧٤م دخل الإذاعة وصار أحد قرائها المشهورين، درس الشيخ الرزيقى الموسيقى دراسة حرة على يد المؤرخ الموسيقى محمود كامل، عُين الشيخ الرزيقى قارئًا لمسجد السيدة نفيسة عام ١٩٨٢م، وسافر إلى العديد من دول العالم حاملًا كتاب الله فى قلبه وعلى لسانه.
وخلال إحيائه إحدى الليالى فى الصعيد سمعه مدير بنك مصر هناك وأوصاه بالتقدم للإذاعة وأعطاه خطاب توصية للشاعر عبدالعظيم محمد، الذى ذهب إليه لكن لم ينفع الأمر، فحاول مرة أخرى بتوصية من فريد باشا زعلوك، لكن وقتها كان العدوان الثلاثى وأوقفت الإذاعة اختبارات القبول.
لكن الشيخ الرزيقى لم ييأس، فكتب خطابًا لرئيس الجمهورية يطلب فيه الانضمام للإذاعة، وجاءه الرد من السيد محمد أنور السادات، مساعد رئيس الجمهورية وقتها، بأن طلب تقدمه فى الإذاعة بالفعل وسيتواصلون معه للاختبارات، وأنه فى حال قبوله عليه إبلاغه ليستمع لصوته فى الراديو، وتم قبول الشيخ أحمد الرزيقى فى النهاية بالإذاعة عام ١٩٧٤م، وكان طبيعيًا أن ينطلق ذلك الصوت ليجوب الآفاق فى مختلف دول العالم بصحبة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وكان يعتز بشهادة خادم الحرمين الشريفين، الملك خالد بن عبدالعزيز- رحمه الله- أثناء لقائه فى آخر عام ١٩٧٦ بصحبة الشيخين عبدالباسط عبدالصمد، ومحمد الطبلاوى، حيث أشاد العاهل السعودى بأسلوب الشيخ الرزيقى فى التلاوة، وإجادته مخارج الحروف، وعندما سألوا الشيخ الرزيقى عن إحساسه وقتها، أجاب: «هذا شىء طبيعى، ففى رأيى أن القرآن (صعيدى)»، وكان يقصد أن قُراء الصعيد يجيدون حفظ القرآن، ويلتزمون بالمخارج أكثر من غيرهم.
وفى أستراليا، حمّلوا الشيخ الرزيقى مطالب عدة قدمها وقتها للإمام الأكبر الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر، فقرر فضيلته إيفاد ثمانية علماء لتدريس علوم القرآن هناك.
وخلال رحلته مع القرآن، التى تخطت الأربعين عامًا، اقترح عدة أمور من شأنها رفع مكانة القراء، وطالب بأن يتولى مشيخة المقارئ عالم برسوم المصاحف المختلفة مع رفع الأجور، وقد حصل فضيلته على وسام الجمهورية من الطبقة الأولى من الرئيس محمد حسنى مبارك عام ١٩٩٠ تقديرًا لدوره فى خدمة القرآن الكريم، والعديد من الميداليات وشهادات التقدير، وهو قارئ السورة بمسجد السيدة نفيسة ووكيل نقابة القراء، وأيضًا سجل المصحف الجامع لأحكام التلاوة بصوته مع أحكام التجويد على امتداد خمس سنوات «١٩٧٨– ١٩٨٢»، كما سجله للسعودية.
ومع آخر ليلة قرآنية أحياها فى أرمنت الوابورات بعدها إلى الأقصر ثم إلى أرمنت، حيث مسقط رأسه، ورفض العودة للقاهرة بعد شعوره بالمرض، وتمنى من الله أن يتوفاه بوم الخميس ويدفن يوم الجمعة، فاستجاب الله له بعد أن صلى المغرب ومن ثم أعلن خبر وفاته، وقد أذاع التليفزيون الألمانى ذلك الخبر، كما صلوا عليه فى أمريكا صلاة الغائب، رحم الله ذلك الصوت المبدع جزاء ما قدم.
وانتقل الشيخ الرزيقى من كُتّاب الشيخ محمود إبراهيم كريّم، الذى حفّظه القرآن وعلمه حكايات من القصص الدينى الذى يروى حياة الصحابة، وعلمه بعضًا من الفقه والسنة والتاريخ الإسلامى- إلى معهد تعليم القراءات ببلدة «أصفون المطاعنة» القريبة من قريته الرزيقات قبلى، حيث تعلم التجويد والقراءات السبع وعلوم القرآن.
نستكمل فى الحلقة القادمة