جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أزمة «سد النهضة».. الطريق نحو المواجهة


تناولنا فى مقال الجمعة الماضى تقدير موقف دول شرق إفريقيا، من تزامن اشتباكات الحدود بين إثيوبيا والسودان بمنطقة «الفشقة»، مع حرب أبى أحمد ضد قومية التيجراى، متحالفًا مع قومية الأمهرة، وبمشاركة إريترية مباشرة.. وساطة جنوب السودان بين الخرطوم وأديس أبابا باءت بالفشل.. وأزمة «سد النهضة» دخلت مرحلة التهديد بالمواجهة، وسط محاولات «فاترة» للوساطة من السعودية والإمارات.. تقدير الموقف الإسرائيلى والأمريكى والأوروبى، خاصة البريطانى من الأزمة هو موضوع مقال الأسبوع.

إسرائيل تتطلع نحو الاستفادة من مصادر المياه فى إثيوبيا، وكذا المساحات الشاسعة من الأراضى الزراعية.. بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، أكد أمام البرلمان الإثيوبى فى يوليو ٢٠١٦ «إسرائيل عادت لإفريقيا بكل قوة.. وسندعم إثيوبيا تكنولوجيًا لتستفيد من مواردها المائية».. فى يونيو ٢٠١٧ زار رئيس الوزراء الإثيوبى السابق هايلى مريام ديسالين إسرائيل، وعقد العديد من الاتفاقيات المتعلقة بالزراعة والمياه والموارد الطبيعية.. ورئيس الوزراء أبى أحمد لم يتأخر عن زيارة تل أبيب مطلع ٢٠١٩.

التنسيق متواصل على المستوى الاستراتيجى، حتى إن العديد من المصادر تؤكد أن آلية التفاوض فى الأزمة، وضع أسسها فريق تفاوضى من الخارجية الإسرائيلية ضم شاؤول موفاز، وزير الخارجية الأسبق، وديفيد كمحى، وكيل الموساد السابق، وأن هناك طابقًا كاملًا بوزارة المياه الإثيوبية مخصص لخبراء المياه الإسرائيليين.. البنك المركزى الإسرائيلى أشرف على «اكتتاب شعبى» للمساهمة فى بناء «سد النهضة».

أهداف إسرائيل من دعم إثيوبيا فى قضية السد، كشفتها الندوة التى نظمتها إسرائيل نهاية أكتوبر ٢٠٢٠ بعنوان «البحث عن حصة عادلة من مياه النيل»، شاركت فيها السفيرة الإثيوبية لدى إسرائيل، التى هددت: «على المصريين الاستعداد لجفاف بحيرة ناصر».

والبروفيسور حجى إرليشو، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وإفريقيا بجامعة تل أبيب، أطلق عبارات تقطر عداءً للقاهرة «سد النهضة زلزال مدمر ضرب مصر.. لن يستمر اعتماد المصريين التاريخى على النيل فى حياتهم الاقتصادية.. سوف نرى قريبًا السد العالى وقد عجز عن توليد الكهرباء نتيجة انخفاض منسوب المياه.. حينها سوف تتلهف مصر على نقطة المياه القادمة من إثيوبيا»!!.

الدكتور عريف هايفرى، نائب رئيس الشئون الأكاديمية بمعهد هرتزل، دعا مصر إلى شراكة جديدة تعتمد على التكنولوجيا الإسرائيلية، والاستثمارات الأمريكية، ما قد يكلف مصر ٧٠ مليار دولار لتحلية ٦ مليارات متر مكعب من مياه البحر سنويًا.. هذه الحقائق تؤكد أن إثيوبيا مجرد أداة لإجبار مصر على اللجوء للبديل الإسرائيلى الأمريكى.

إسرائيل إذن صاحبة مصلحة مباشرة فى أزمة السد، فقد سمحت لها بإيجاد موطئ قدم، ودعمت نفوذها فى منابع النيل، أملًا فى الحصول على حصة من مياهه، أو على الأقل تحويل إثيوبيا إلى مزرعة لإنتاج سلة الغذاء اللازمة لها، لكن هذا الدور يحكمه حرص إسرائيل على تحقيق التوازن الدقيق بين مصالحها فى إثيوبيا وعلاقاتها مع مصر، مما يفسر إحجامها عن الانزلاق فى محاولة توريطها بتزويد السد بشبكة دفاع جوى متطورة.. الخلاصة، إسرائيل طرف مؤثر، لا يمكن تجاهل أهميته فى الأزمة، وينبغى الحرص على تحييد موقفها قدر الإمكان، ومنعها من التورط الزائد، على النحو الذى لن يؤثر على مسار الأزمة فحسب، بل قد تكون له انعكاسات سلبية على التوازن الهش فى علاقاتها مع مصر.

بريطانيا لم تُبد استعدادًا للتوسط فى حل مشكلة «سد النهضة»، رغم أنها الأكثر تأهلًا لهذا الدور، فهى الموقعة على اتفاق ١٩٠٢ مع إثيوبيا نيابة عن مصر والسودان، وهى التى سلمت أراضى «بنى شنقول» السودانية لإثيوبيا مقابل عدم إقامة مشروعات على النيل، تمس احتياجات دولتى المصب.. بريطانيا تمتلك أيضًا نفوذًا على عدد من دول الكومنولث أعضاء الاتحاد الإفريقى، ما قد يسمح لها بدفع أديس أبابا فى اتجاه التسوية السياسية، لكن إثيوبيا تشكك فى حياد الموقف البريطانى.

السفير الإثيوبى بالخرطوم يبلتال أمرو ألمو، صرح نهاية ديسمبر ٢٠٢٠، بأن بريطانيا تحاملت فى اتفاق ١٩٠٢ على بلاده!!، رغم أن الوثائق التاريخية تؤكد أنه تم باتفاق ورضاء كامل مع الإمبراطور منليك، حاكم إثيوبيا المستقلة آنذاك.. تحامل إثيوبيا على بريطانيا أدى إلى ضياع فرص الوساطة، وطلب البرلمان البريطانى من الحكومة فى أكتوبر ٢٠٢٠، تنمية العلاقات مع السودان، لأهميتها كبديل فى استقرار القرن الإفريقى وشرق إفريقيا.

السفير البريطانى بالخرطوم أكد تفهم بلاده موقف السودان بشأن مفاوضات السد، ووعد بدعم الملف للوصول إلى اتفاق مُرض بين الدول الثلاث، أعقتبها زيارة وزير الخارجية البريطانى دومنيك راب للخرطوم يناير ٢٠٢١، وتأكيد حرص بلاده على حل النزاع الحدودى مع إثيوبيا، وفق اتفاق ١٩٠٢.. بريطانيا تمتلك مقومات الوسيط، لكنها تفتقر إلى الإرادة، وإثيوبيا أغلقت كل أبواب التسويات السياسية.

الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب حجب عن إثيوبيا فى سبتمبر ٢٠٢٠ مساعدات بصورة «مؤقتة» تقدر بنحو ١٣٠ مليون دولار، بسبب تعنتها فى مفاوضات سد النهضة، وقرارها البدء بملء السد قبل التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان، وهو إجراء رمزى لم يؤثر على موقف أديس أبابا من الأزمة.. لكن ذلك لا يعنى عدم اكتراث إثيوبيا للموقف الأمريكى، وإلا لما وقعت عقدًا فى واشنطن مع شركة «بارنز آند ثورنبورج» للعلاقات العامة مقابل ١٣٠ ألف دولار شهريًا غطت الفترة من ٣٠ يونيو إلى ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٠.. أعقبه التعاقد مع شركة «فينابل- Venable» للاستشارات القانونية مطلع فبراير ٢٠٢١، مدته ثلاثة أشهر قابلة للتجديد، مقابل ٣٥ ألف دولار شهريًا، بهدف «ممارسة الضغط السياسى، ودعم العلاقات الحكومية من خلال الاتصال مع أعضاء الكونجرس، والوزارات وإدارة بايدن».

حملات العلاقات العامة الإثيوبية على الساحة الأمريكية تعتبر رد فعل لقلقها من الدور السياسى الذى حاول أن يلعبه ترامب فى تسوية أزمة السد، والذى لم يكن متقبلًا لسياسة التشدد التى تتبعها.. عائد الحملات الإثيوبية كان إيجابيًا، خاصة فيما يتعلق بالبيان الذى أصدره تجمع أعضاء الكونجرس ذوى الأصل الإفريقى Black Caucus فى ٢٣ يونيو ٢٠٢٠، لحث الولايات المتحدة والجهات الدولية الفاعلة على احترام اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة فى الخرطوم بين مصر والسودان وإثيوبيا عام ٢٠١٥، والتوصية باستمرار أمريكا فى أداء دور محايد، والاكتفاء بمنح حق المشورة للاتحاد الإفريقى والدبلوماسيين العاملين على أرض المنطقة، والمعنيين بالأزمة.

بعد وصول بايدن الحكم، لم يتطرق أىٌّ من أعضاء إدارته لأزمة «سد النهضة»، وظل الموقف منها غامضًا، مصر ناشدت إدارة بايدن من خلال سفيرها فى واشنطن معتز زهران، التدخل لدعم المفاوضات.. بعدها أكد سامويل وربيرج، المتحدث الإقليمى للخارجية الأمريكية، أن بلاده تدرس الأزمة وتتشاور مع أطرافها لفهم أبعادها وتحديد الدور الذى يمكن أن تلعبه مستقبلًا، وأكد: «يبقى على الدول الثلاث أن تحل أمورها بأنفسها، وأمريكا يمكنها أن تتدخل بالمساعدات التقنية»، وهذا يعنى عدم إمكانية التعويل على الموقف الأمريكى، لالتزام واشنطن الحياد تجاه أطراف الأزمة، مما يفسر إجراءاتها المتوازنة تجاههم.

سفير أمريكا فى الخرطوم وصف موقف السودان فى محادثات السد بـ«العقلانى»، وأكد حق السودان فى تبادل منتظم للمعلومات تأمينًا لسدوده ومنشآته المائية وسلامة مواطنيه.. الإدارة الأمريكية وافقت لمصر على صفقة صواريخ تكتيكية «رام بلوك ٢» المتطورة المضادة للسفن والأهداف البحرية، بتكلفة تقديرية ١٩٧ مليون دولار.. وألغت فى الوقت ذاته قرار تعليق المساعدات المقدمة لإثيوبيا الذى أصدره ترامب لتشددها فى مفاوضات السد، لكن الخارجية الأمريكية أبقت على الحظر بذريعة تطور الصراع فى التيجراى، مما يعكس تحسب واشنطن لاحتمالات تصاعد أزمة السد، ودخولها مرحلة المواجهة المباشرة، وربما الصدام العسكرى، وهى لا ترغب فى حدوث ذلك، وهى تفرض عقوبات على أحد طرفى النزاع، فتتعرض لشبهة الانحياز، وهى أميل لحياد فعلى.

الناطق باسم الخارجية الإثيوبية «دينا مفتى» أكد أن «إثيوبيا» ستبدأ الملء الثانى للسد فى يوليو المقبل، دون استئذان أحد!!.. الخارجية المصرية حذرت من الملء الثانى بشكل أحادى، ووزير الخارجية سامح شكرى، شدد على أن مصر لن تقبل بسياسة فرض الأمر الواقع، وألمح إلى أنه فيما يتعلق بخيارات مصر المطروحة فى ظل وصول مفاوضات السد إلى طريق مسدود، فإن هناك ما لا يجوز تناوله فى الإعلام!!.. زيارة رئيس الأركان المصرى للخرطوم وتوقيع اتفاق عسكرى، والمناورة الجوية الممتدة، وزيارة وزيرة خارجية السودان للقاهرة لوضع الإطار السياسى للعمل، والزيارة المنتظرة للسيسى إلى السودان، إجراءات مهمة تتحسب للإجراء الإثيوبى بالملء الثانى، وتستعد لمواجهة حاسمة مع مخاطره.

الموضوع أكبر مما يبدو على السطح؛ فإثيوبيا تطمع فى ٧٠ مليار متر مكعب سنويًا من المياه، تمثل حصة مصر والسودان فى نهر النيل، رغم أن كمية الأمطار التى تسقط عليها قرابة ٩٥٠ مليار متر مكعب، ومن المفارقات أن حصة تربية نحو ١٠٠ مليون رأس من الماشية تملكها، تصل إلى ٨٤ مليار متر مكعب، أى تتجاوز حصة دولتى المصب!!.. هذه الحقائق التى ينبغى ترويجها ضمن حملة علاقات علامة عامة دولية، تؤكد أن إثيوبيا وسعت الطاقة التخزينية للسد، لاعتبارات استراتيجية لاعلاقة لها بحاجتها للمياه ولا للكهرباء، وإنما لتبطئ جريان النهر، وتلك فرية كبرى كان عليها أن تدرك خطورتها، فقد حذر من ارتكابها «حورس» إله الشمس عند قدماء المصريين، وسجلها واضحة صريحة لكل من يعنيه الأمر، عند مقياس النيل فى الروضة «إذا انخفض منسوب النهر فليهرع كل جنود الملك ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه».

مصر هبة النيل، وعامل الزمن أضحى ضاغطًا، سقفه لا يتجاوز أوائل يوليو المقبل على أقصى تقدير، قبل بدء المرحلة الثانية من الملء، التى ترفع المخزون إلى ١٨ مليار متر مكعب، ويصبح السد أمرًا واقعًا، وتهديدًا مدمرًا للحياة على ضفتى نهر النيل، إما بفعل رصيد تاريخى من كراهية إثيوبيا لمصر، أو نتيجة للاحتمالات القوية بانهياره نتيجة أخطاء التصميم، وسوء حالة التربة التى شُيد عليها.. الإدارة الأمريكية الراهنة لا تكترث لملف السد، والأهمية الاستراتيجية لإثيوبيا كعنصر توازن فى شرق إفريقيا تراجعت بحدة بالنسبة لها، لصالح الاعتماد على السودان، وذلك تحول بالغ الإيجابية.. الاتحاد الأوروبى أيضًا لا يبدى أى اهتمام بأزمة السد ولا بتداعياتها.. الصين لا ترى سوى مصالحها الاقتصادية فى هذه المنطقة، بعيدًا عن السياسة وأزماتها.. وكل دول العالم أنهكتها الحرب ضد فيروس كورونا، ولم تترك نصيبًا لأى أزمة أخرى متفجرة، بأكثر من بيانات سياسية لا تغير شيئًا من الواقع الذى يتم فرضه بالقوة.. الرؤية صارت بالغة الوضوح، والجميع يترقب الأعاصير القادمة.