جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«قتلة برداء أبيض».. «الدستور» تكشف الشبكات السرية لبيع لقاحات كورونا الوهمية

الشبكات السرية لبيع
الشبكات السرية لبيع لقاحات كورونا

قبل ساعات قليلة، أعلنت وزارة الصحة أن المنصة الوحيدة في مصر للحصول على لقاحات فيروس كورونا، من خلال الموقع الإلكتروني الرسمي الخاص بالوزارة، الذى تمت إتاحته للمواطنين يوم 28 من شهر فبراير الماضي، لتحذر المواطنين من عدم الانسياق وراء مروجي الشائعات، والحصول على المعلومات من مصادرها الرسمية.

بدأت تجارة الأدوية المجهولة لفيروس كورونا بعد إعلان وزارة الصحة عن فعالية اللقاحات المتوافرة، وتعاقدها مع الشركات لاستلام الجرعات المطلوبة، وكذلك إجراء التجارب السريرية عليها، إذ استتبع هذا البيان ظهور "سماسرة اللقاح"، الذين يعرضون بيعه للمصابين بالفيروس مقابل آلاف الجنيهات رغم احتفاظ الوزارة بها إلى أن يتم توزيعها على فئات معينة حسب دراستهم للأمر.

هنا في "الدستور" كنا أول من كشف عن "سماسرة الدواء" في ظل الجائحة، بعد أن أجرينا اتفاقات مع بعضهم على شراء عقار "ريمديسيفير"، الذي أعلنت شركة «إيفا فارما» عن تصنيعه في مصر، وتوزيعه على مستشفيات العزل الصحي فقط، وها نحن ندخل إلى هذه المساحة مرة أخرى، لكن ما نكشفه هذه المرة أكثر كارثية، أو كما علقت عليه الجهات المسؤولة: "جريمة أمن قومي".

• رحلة البحث عن اللقاح الوهمي
انطلقت رحلة البحث عن لقاحات كورونا في السوق السوداء فور إعلان الحكومة المصرية عن وصولها مصر، واستمرت لمدة أسبوعين حتى تحققنا من قصتنا، وأجرينا عدة اتفاقيات مع سماسرة "الدواء"، منهم من طلب منا الانتظار عدة أيام قبل بيعه لنا، من أجل الحصول عليه أولًا، وبالفعل عادوا إلينا مرة أخرى ليعلنوا عن توفير اللقاح.

وفي وقت انتظارنا الرد، أجرينا جولة إلكترونية داخل المجموعات السرية على "فيسبوك"، والتي تخصصت في بيع وشراء لقاحات كورونا منذ الموجة الأولى من الجائحة، بل ومازالت تستغل مرض المصابين وحاجتهم في الحصول على العلاج بأي ثمن أو وسيلة.

الأمر أصبح أكثر سهولة في الوصول إلى معلومة تثبت تورطهم في الإتجار باللقاح، بعد أن اكتشفنا سوق إلكتروني لطلب الدواء، بدءًا من صفحات فيسبوك وصولًا إلى خبايا الإنترنت المظلم، يديره مجموعة من المحتالين الذين تربصوا لاصطياد المصابين وذويهم عبر تلك المنصات.

وبالانخراط داخل مافيا الدواء، استطعنا اختراقهم عبر حساب وهمي، ادعينا من خلاله إصابتنا بالمرض، وحاجتنا في الحصول على اللقاح، ولم نكن الوحيدون في طلب هذا العقار، بل وجدنا العديد من المواطنين يتسارعون على شراء اللقاح بأي ثمن ممكن، ما خلق فرصة للمحتالين في النصب عليهم.

• طبيب مصري مقيم في الإمارات: "الجرعة ثمنها 250 دولار.. والشحن جوي"
منشور واحد داخل هذه المجموعات السرية، كان كافيًا ليتواصل معنا على الفور أحد المصريين المقيمين في دولة الإمارات، معلنًا بشكل صريح عن قدرته في الحصول على اللقاح، وشحنه لنا "جويًا"، كونه طبيب يملك العديد من العلاقات داخل المستشفيات، مؤكدًا على تعاملاته الخفية في هذا الأمر منذ ظهور الجائحة.

طلبنا منه في البداية توفير 20 جرعة من اللقاح، لكنه لم يملك حينها سوى 4 جرعات فقط، بل أن هذه الكمية هي التي يمكنه شحنها فقط، حتى لا يُفضح أمره من قبل أمن المطار، وعندما أبلغناه بحاجتنا لكميات كبيرة من العقار، وجهنا إلى صفحات معينة داخل الإنترنت المظلم، نستطيع من خلالها طلب الكمية التي نرغب فيها، مؤكدًا على ثقته في هذه التجارة السوداء.

وافقنا بعد ذلك على شراء الجرعات المتاحة فقط، ليوضح لنا طريقة التعامل التي سنعمل عليها لحين استلام اللقاح في مصر، قائلًا: "في البداية سيتم إرسال عربون قيمته 100 دولار على حسابه الشخصي عبر خاصية (ويسترن) البنكية، بالإضافة إلى العنوان الخاص بنا".

"كيف نتأكد من مصداقية حديثك؟"، ذلك هو السؤال الذي وجهناه إليه للحصول على معلومات أخرى تفيد تحقيقنا في الأمر، ليجيب علينا مشيرًا إلى أنها ليست المرة الأولى له في بيع اللقاح، بل أرسل لنا صور حية من داخل غرفته الخاصة، حاملًا في يده "الحقنة"، وصورة أخرى للقاح، مخزن داخل ثلاجة.

وبعد التأكد من توافر اللقاح لديه، أخبرنا أن الجرعة الواحدة منه تساوي 250 دولار، بجانب 100 دولار ثمن الشحن، ليكونوا من نصيب الشخص الحامل للدواء من الإمارات إلى مصر، كونه يعرض نفسه لمجازفة شديدة، وبسؤاله عن احتمالية فشل الخطة: "احنا بنغير شكل العبوة قبل شحنها في شنطة الشخص اللي هيسافر، وجربنا الطريقة كذا مرة ونجحت".

• تاجر أدوية يعرض 10 جرعات من اللقاح بـ25 ألف جنيه
بعد أيام قليلة، تواصل معنا التاجر الذي تحدثنا إليه في المرة الأولى، ليخبرنا أنه استطاع الوصول إلى اللقاح بطريقة ما، لكنه سيوفر 10 جرعات منه فقط، مقابل مبلغ مالي قدره 25 ألف جنيه، مؤكدًا أن هذا أرخص سعر يمكن الوصول إليه، بسبب الإقبال الكثيف عليه من قبل المصابين بالفيروس.

وطلب منا سرعة تنفيذ الاتفاقية حتى لا يٌكشف أمره، كونه يعلم جيدًا مدى خطورة الأمر إذ اكتشف شخص ما تخزينه للقاح، وحين اعترضنا على السعر المذكور، أخبرنا أن بإمكانه التصرف في الجرعات المتوفرة من خلال كتابة منشور واحد على فيسبوك "أنا قادر أبيعهم في ثانية وانت عارف كدا كويس".

استفسرنا منه عن باقي التفاصيل، وأخبرنا أن هناك شخص سيتواصل معنا في غضون ساعات، ليبلغنا عن مكان وموعد التسليم، موضحًا أن هناك مكانين فقط يتم فيهم تسليم اللقاحات الخاصة بكورونا، وهما عين شمس ورمسيس، لكن الشخص المسئول عن التوصيل كان لديه موعد آخر في ذلك الحين: "هيتأخر عليك شوية علشان بيوصل (ريميدسفير) لزبون في محافظة تانية".

في نهاية حديثنا معه، أكد التاجر على ضرورة سرية الاتفاقية، وحين جاء موعد التسليم توقفنا عند ذلك الحد من المغامرة، حتى لا نقع تحت طائلة القانون، واكتفينا فقط بما ذكره عن تجارته السوداء في لقاحات فيروس كورونا.


• عامل في مستشفى بالإسكندرية: "هجمعلك الكمية المطلوبة"
الأمر لم يكن مقتصرًا على تجار الأدوية فقط، بل امتد ليشمل العاملين داخل المستشفيات، حين اكتشفنا تورط أحد الأشخاص داخل مستشفى بمحافظة الإسكندرية في التجارة بمرض المصابين من الفيروس، واستغلال علاقاته في الحصول على اللقاحات الخاصة بالمرض، وبيعها للمصابين بأسعار مضاعفة لثمنها الحقيقي.

وصلنا إليه من خلال صفحة وهمية أنشأها عبر فيسبوك، والتي حملت عنوان "إسعاف المستقبل"، ليصطاد ضحاياه من خلالها، واحتوت على عدة منشورات تشير إلى توافر العديد من اللقاحات المختلفة التي تستخدم في العلاج من فيروس كورونا.

في المحادثة الأولى معه، أكد لنا تعامله في هذا اللقاح منذ وصوله مصر، معبرًا عن استياءه من الشكاوي المتكررة حول استخدام الدواء، بسبب أعراض جانبية ظهرت على من يبتاعونه منه في الخفاء، لذا توقف فترة ما عن الإتجار في اللقاح، لكن بمجرد أن تواصلنا معه لم يتردد في قوله: "هجمع الكمية المطلوبة وأكلمك".

وعبر أيضًا عن قدرته في بيع أي لقاح آخر له علاقة بفيروس كورونا، وكان أبرزهم "أكتميرا"، الذي اتضح أنه يملك كمية كبيرة منه، مؤكدًا على القاعدة الكبيرة من العملاء التي كونها في الفترة الأخيرة بسبب جائحة كورونا، واحتياجات المصابين المستمرة في الحصول على الدواء في ظل نقصه داخل الأسواق المصرية.

عاد إلينا الشخص المذكور بعد يومين من إجراء الاتفاقية على شراء اللقاح الصيني، مشيرًا إلى الجهد المبذول في تجميع الكمية المطلوبة من 30 جرعة، كونها كمية ضخمة مقارنة بما يحصل عليه في المعدل الطبيعي: "أنا ببيع جرعتين أو تلاتة بالكتير لكل عميل".

واختتم حديثه معنا مطالبًا أن ننتظر أيام معدودة لتسليم الشحنة المطلوبة، ولتأكيد جدية الاتفاقية أرسل لنا "لوكيشن" نتوجه إليه في محافظة الإسكندرية، إذ أتيحت الفرصة قبل موعد التسليم، لكننا اكتفينا بهذا العرض على أن يتم التواصل معنا مرة أخرى لحظة وصول الشحنة المطلوبة.

في النهاية، بقي سؤال محير حول ماهية ما يُعرض عبر منصات التواصل الاجتماعي، من بيع اللقاح الصيني، رغم عدم توزيعه على الأطباء والمستشفيات حتى وقتنا هذا، لذا توجهنا إلى المختصين حول الأمر لتوضيح حقيقة الحصول على اللقاح وبيعه في السوق السوداء.


• نائب مدير حميات إمبابة: "اللقاح مازال تحت الدراسة.. والمعروض وهمي"
استنكر الدكتور ماهر الجارحي، مدير حميات مستشفى إمبابة، في بداية حديثه لـ"الدستور"، إمكانية الحصول على اللقاح الصيني في الخفاء، كونه تحت رقابة وزارة الصحة والسكان فقط، ولا يمكن لأي شخص الحصول عليه بسهولة كما يعتقد البعض.

"اللقاح اللي بيتباع على النت كله نصب"، كان هذا تعليق "الجارحي" حين عرضنا عليه ما أجريناه من اتفاقات مسجلة حول شراء اللقاح الصيني بطرق خفية، مشيرًا إلى استحالة الأمر في هذا الوقت تحديدًا، وأن التجار يستغلون حاجة المصابين من الفيروس وخوفهم من المرض، ليبيعون لهم عقاقير وهمية تحمل علامات تجارية مزيفة.


• شعبة الأدوية: الاتجار في لقاحات كورونا "جريمة أمن قومي"
توجهنا بعد ذلك للحديث مع الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية، والذي رفض بشدة الجرائم التي يفتعلها سماسرة الدواء في مصر، من خلال ترويج أكاذيب حول حصولها على لقاحات كورونا رغم عدم توزيعها، معلقًا: "الناس كلها بتحاول توصل للتطعيم في ظل الموجة الثانية، ودا اللي خلق فرصة لظهور مافيا الدواء".

وصف "عوف" التجارة في اللقاح الصيني بأنها جريمة "أمن قومي"، كونه شيء عائد إلى وزارة الصحة لا يمكن التحكم فيه دون قرارات رسمية من قبل الجهة الحكومية ذاتها، وأن ما يحدث حاليًا في مصر ما هو إلا احتيال على المواطنين، واستغلال مرضهم في الحصول على أموال باهظة، دون إدراك مدى الخطورة التي قد يسببها ما يبتاعونه.

"اللقاح هيكون تكلفته قليلة للمواطن"، عبر "عوف" عن مدى استنكاره للأمر من خلال بيعه بهذه الأسعار الوهمية، مشيرًا إلى أن كل ما يحدث نصب رسمي على المصابين وذويهم، فمن السهل تركيب أي دواء ووضعه داخل عبوة مصممة بطريقة معينة لتكون مقاربة من التصميم الصيني، لذا نصح في نهاية حديثه بضرورة الإبلاغ عن تلك الصفحات الوهمية.

• نقابة الصيادلة: السماسرة يستغلون الحرب التنافسية بين شركات الدواء
وبالتواصل مع عضو نقابة الصيادلة والخبير الدوائي، الدكتور أحمد أبو طالب، تحدث عن المنافسة التي تشهدها شركات الأدوية للحصول على اللقاح المناسب لفيروس كورونا، مشيرًا إلى أن صناعة التطعيم لها خطوات معينة، وهناك أشياء يمكن تجاوزها في المرحلة الحالية من هذه الخطوات حتى نتمكن من الحصول على اللقاح الآمن.

من جهته كمختص في مجال الدواء، أعلن خلال حديثه مع "الدستور"، موافقته الشديدة على استخدام اللقاح الصيني، لأنه تم تصنيعه بالطريقة التقليدية التي وردت داخل الكتب العلمية الشهيرة، لكن ما يثار حول أعراضه الجانبية ما هي إلا حرب تنافسية من شركات الدواء، هدفها الرئيسي السيطرة على سوق الدواء من خلال امتلاك لقاح واحد يمكنهم التحكم فيه.

أما عن جريمة بيعه "أونلاين"، حذر "أبو طالب" من التعامل نهائيًا مع صفحات السوشيال ميديا في الحصول على أي عقار، لأن الخبير الوحيد في هذا الأمر هو الصيدلي، وفي حالة عدم توزيع اللقاحات على الصيدليات، يجب التوجه إلى المكان الذي خصصته وزارة الصحة للحصول على الدواء من خلاله.

"من الصعب التعامل مع اللقاح الصيني خارج سور الوزارة والمستشفيات"، أشار "أبو طالب" إلى أن الحفاظ على اللقاح يحتاج إلى درجة حرارة منخفضة، ونظام خاص للرعاية والحفظ داخل ثلاجة خاصة حتى لا يُفسد، لكن ما يحدث حاليًا من خلق سوق لمافيا الدواء عبر الإنترنت ما هو إلا حرب يشارك فيها جميع الأطراف من أجل هدم مخططات الحكومة المصرية.

اختتم الخبير الدوائي حديثه منوهًا إلى نسبة الوفيات التي زادت بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة بسبب تناول أدوية ليس معلوم ماهيتها، يحصل عليها الضحايا عبر منصات التواصل الاجتماعي، لذا من الضروري سرعة تكاتف الأجهزة الأمنية لرصد هذه الصفحات، والقبض على مروجينها فورًا قبل حدوث أمور كارثية.


• المركز المصري للحق في الدواء: ممنوع تداول اللقاحات دون علم وزارة الصحة
لم يختلف رأي الدكتور محمد عز العرب، أستاذ الباطنة بالمعهد القومي للكبد والأمراض المعدية، والمستشار العلمي للمركز المصري للحق في الدواء، حول استخدام اللقاح الصيني في العلاج من فيروس كورونا بشكل عام، موضحًا أن الحكومة المصرية لن تعتمد أي لقاح قبل التثبت من مدى فعاليته أولًا، وهنا يأتي دور التجارب السريرية التي أثبتت نجاحها في المراحل الأولى.

"ممنوع تداول اللقاح بطريقة غير رسمية منعًا باتًا"، كان هذا رد "عز العرب" على ما كشفناه خلال تحقيقنا من تورط عدد من السماسرة في ترويج لقاحات كورونا عبر الإنترنت، مؤكدًا أن المصل واللقاح هي الجهة الأساسية في توزيع الدواء، ثم الأماكن التي تقررها وزارة الصحة داخل محافظات الجمهورية.

واستكمل: "جرعات اللقاح يتم تناولها تحت إشراف تام من قبل وزارة الصحة، كذلك يتم الأمر مع التخزين والتوزيع، وحتى نصل إلى هذه المرحلة يجب السيطرة على الصفحات والتجار الوهميين للقاح، ومعاقبة أي شخص يستغل مرض المواطنين في كسب الأموال بطريقة غير شرعية".

حاولنا التواصل مع وزارة الصحة والسكان لتوضيح موقفها تجاه هذه القضية، وبالأخص مع نائب الوزيرة لشئون الدواء، لكننا لم نتلقى أي رد.