جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

شخصيات مشهورة.. الأصل والصورة




فى معظم الحالات سنجد أن للشخصيات ذات التأثير فى الفن والأدب صورة أخرى تتحرك خلفها «تقليد أو نسخة باهتة»، لكنها مهما بلغت دقة التقليد لا تشع بضوء النجم الأصلى، ولا تحيطها هالة الحقيقة، وفى أغلب الأحوال تكون الغيرة السبب الرئيسى فى ظهور النسخة الثانية.
بهذا الصدد تقول النجمة الأمريكية باهرة الجمال «جوان فونتين» إن أختها كانت تغير منها باستمرار، حتى إن «فونتين» كانت تظن أنها لو سبقت أختها إلى الموت فإن أختها سوف تتحسر وتصرخ: «كيف سبقتنى فونتين؟».. أما المحامى عبدالحميد قطامش، وكان من أصدقاء عم محمود السعدنى المقربين، فكتب ذات مرة أن فلانًا يغير منه غيرة شديدة إلى حد أنه إذا ادّعى قطامش أنه كذاب لعين فسوف يصيح الغيور: «لا.. أنا أشد كذبًا بمئة مرة»!، وعلاوة على الغيرة فإن الأحداث التاريخية الكبرى والرجال والحروب والأفكار والمواهب الحقيقية والقصائد الدافئة تترك ظلالًا تمشى من خلفها، شديدة الشبه بما كان، لكن ليست هى.
وعبدالحليم حافظ هو صاحب براءة اختراع الغناء بعينين نصف مغمضتين، وذراعيه متباعدتين فى الفراغ، لكن مئات المطربين من بعده راحوا يقلدون الأصل بصور أخرى باهتة.. وظل عادل خيرى، الممثل، يقدم طويلًا مسرحيات نجيب الريحانى مجتهدًا فى تقليده، كأنه حقيقة وليس ظلًا، وكأنه الأصل وليس صورة.
وكل موهبة حقيقية كبيرة تمثل طعامًا دسمًا للصورة وللظلال، لأن الموهبة تثير الإعجاب فى نفوس من حولها والرغبة فى تقليدها، هكذا عاش إسماعيل شبانة، شقيق عبدالحليم حافظ، على أنه مطرب وليس صدى لصوت آخر أصيل نادر، وإلى جانب محمد عبدالوهاب ظهر سعد عبدالوهاب تقريبًا بنفس نبرة عبدالوهاب، وإلى جانب شكرى سرحان اندفع إلى التمثيل أخوه سامى سرحان دون فائدة تذكر، ومع الملحن الموهوب صلاح الشرنوبى ظهر أخوه فاروق الشرنوبى صورة أخرى باهتة، ومن قبل رأينا الممثل العملاق حسين رياض ولهاث أخيه فؤاد رياض من أجل أن يكرر الأصل.
بالطبع لا يستطيع أحد، ولا يحق له أيضًا، أن يحرم الكواكب غير المشعة من الشوق إلى كينونة الكواكب المنيرة، لكن الظلال حين تأكلها الغيرة تتقدم أبعد من وجودها وتسعى لافتراس الأصل.. وفى عام ١٧٦٦ عاش فى فيينا الموسيقار الإيطالى الشهير «سالييرى»، وكان معلمًا موسيقيًا قديرًا، حتى إن بيتهوفن تلقى على يديه علوم الموسيقى، لكن «سالييرى» كان مؤلفًا متواضع الموهبة، وحاول بكل الطرق أن يقلد «موتسارت»، ولما فشل قادته الغيرة من موهبة موتسارت إلى تسميم حياة موتسارت.
ومنذ عدة سنوات هاجم رمسيس عوض أخاه الأكبر الناقد المعروف د. لويس عوض، مدعيًا أنه- أى رمسيس- يفوق لويس علمًا وأستاذية، واعتبر، فى حديث له، أن لويس عوض أعظم ناقد عربى، وأضاف: «لكنى تجاوزته»!، الغريب أن الدكتور لويس عوض فى كتابه «أوراق العمر» كتب يقول: «كنت فى آونة كثيرة أحس بأن أخى رمسيس يضمر شيئًا من الحنق علىّ»!، وقد لا تظهر لنا على سطح الحياة الفنية والأدبية تلك الصور، التقليد، لكنها تظل تتحرك فى الحياة من دون أن نراها.
وقد شاهدت عددًا غير قليل من البشر ضربته كالصاعقة صورة أديب ما عظيم، فراح يقلده فى حياته اليومية وسلوكه وأحيانًا فى نبرة صوته، وتتراوح دوافع الصور إلى الوجود ما بين الغيرة والشوق الإنسانى إلى كينونة النور والتأثير، وقد نغفر لتلك الصور هذا التقليد، والتشبه، إذا تذكرنا أن الإنسان قد خلق من مواد كثيرة منها الحديد ومنها أيضًا ذرات النجوم، ولهذا فإن فى بدن كل منا قدرًا من النور يجعله يتطلع إلى الأعلى ويكتفى بالتقليد، إن لم يكن فى تكوينه ما يكفى من النور ليكون الأصل وليس صورة.
وفى كل الأحوال تظل الأصول باقية، فقد كان لدينا عبدالحليم حافظ واحد، وليس عشرة، ونجيب محفوظ واحد، ويوسف إدريس مرة واحدة لا تتكرر، ومهما بلغت دقة التقليد فإنها تظل صورة وليس النسخة الأصلية، لأنك مهما اجتهدت لا تستطيع أن تقلد الوردة، وإذا نجحت فى خلق نسخة منها فإنها تظل بلا عطر.