جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الصراع في رواية ستائر شفافة


يحرص كتاب الروايات دائما على جذب اهتمام القارئ بأن يثير لديه أكبر قدر من الانفعال والتطلع إلى تطور الأحداث. مع أكبر قدر من الانفعالات العنيفة والعواطف الحادة ونهاية الصراع ألذ يحتدم على صفحات الرواية.
ويعتبر الريف المصري، بحضارته الموغلة في القدم مصدرا من كبيرا للروائيين، حيث تظل المعتقدات القديمة وشرف البنت الهاجس الأكبر لكل القريبين من البنت، والدها وأشقائها وأمها وأقاربها. ويتفجر الصراح والقتال بين العائلات عند أي بادرة مساس بشرف البنت أو المرأة عموما. وهو ما لاحظناه من خلال قراءة رواية ستائر شفافة للكاتبة صباح عبد النبي وهي رواية صغيرة، في 150 صفة من القطع المتوسط.
ستائر شفافة عنوان مخادع, يشي بعدم فاعلية أخفاء ما يظهر من داخل البيوت, باستخدام الستائر الشفافة, للدلالة على أن كل الأمور المستورة لابد لها من أن تنجلي, وتنكشف مهما حاولنا ستر الأفعال كما أن العنوان يفضح العقليات التي تتوغل في التدين الكاذب, والتعلم والتحضر الوهمي أو المدنية الزائفة .
الرواية تدور أحداثها حول الصراع بكل أنواعه. الصراع بين التقدم والتخلف، العلم والخرافة. العادات والتقاليد البالية والتطور الحاصل في المجتمع.
اختارت الكاتبة بدقة واقتدار حدث درامي. يقع لفتاة ساذجة فتاة قليلة الوعي والإدراك، مع حدث لا دخل لها فيه. لتنسج حوله أحداث الرواية، وتضعنا جميعها أمام إشكالية معقدة. ربما لحساسية الحدث، أو النتائج المترتبة على هذا الحادث.
ربما كان اسم طاهرة دلالة على خلو الفتاة من الدنس الذي تسلل إلى جسدها. على الرغم من اقترافها لكارثة تستوجب قتلها للتخلص من عارها، إلا أن الكاتبة اختارت لها اسما لتوحي لعقلنا الباطن أن بطلتها طاهرة بالفعل من كل الدنس، الذي جعلته يعتريها بفعل الذنب الذي لا دخل لها فيه. ومن هذا الحديث يتفجر الصراع، وتتحول الفتاة إلى كارثة كبرى دون أن تدري. وكلما مر الزمن يزداد حجم الكارثة مع نمو بطنها.
مع أول فقرة في الرواية تصف لنا الكاتبة بطلتها بأنها:
- ثوبها الوردي المطرز بالخيوط الزرقاء حول جسدها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، ينحتها أنثى شهية، سرعان ما تمتلئ أردافها، فتثقل خطاها، تتدافع العيون من الوجوه نحوها بنظرات ساخطة، تطول الأفواه الآذان وهي محاطة بالكفوف بكل الظنون:
- واستر ولايانا يا رب.
تخسف بطنها، تغيبها في ظهرها، يتفصد العرق من جبينها الناصع، يسيل على وجهه المليح، تداريه عن المارة بشالها الشيفون الأزرق، يبدو مكشوفا، يديرون وجوههم، ويجمعون أرياقهم في أفواههم ويكورنه ناحيتها:
- اتفوو.[ ]
والكلمة الأخيرة باللهجة العامية تعنى السخط والاشمئزاز والقرف والتبرؤ منها. ولفظها كما يلفظ البصاق من الفم.
تدور الرواية كلها حول هذا الحدث وتبعاته.
تتحدي الكاتبة الحقائق العلمية لتجعل طاهرة بطلتها الفتاة البكر صغيرة السن ترتدي ملابس زوجة شقيقها، الملوثة بسائل عريسها، وترتديها الفتاه. يتسلل الحيوان المنوي من ملابس الزوجة، إلى جسد الفتاة ليلتقي ببيضاتها المتأهبة للحمل ويحدث الحمل. لتكتمل كل معاني المأساة لتجعل طاهرة تحمل من شقيقها، ورغم عدم معقولية الحادث، وتعارضه مع الحقائق العلمية، وانسجامه مع الخرافات المنتشرة في الأرياف.
طاهرة تعمل خادمة في البيت, كما تعمل مثل رجل في الغيط, وفي الزريبة تقدم التبن للبهائم, وتنضف مكانها, وتوكل الطيور وتعجن وتخبز, وتحش دراو [ ]من الغيط[ ], كما تخبرنا المؤلفة أن الشيخ أبو الحمد علم طاهرة القرآن الكريم, وعلمها حدود الله, وتقرأ وتكتب وتحسب وتعد[ ].
كما قدمت لنا الكاتبة صباح النبي في روايتها "ستائر شفافة" وصفا تفصيليا لمعاناة أهل الفتاة. والدها الذي يقرر قتلها، ولكنه لا يجرؤ على ذلك، فينتظر لحين وصول شقيقها، طاهر، الطبيب الذي سافر لأمريكا ليتعلم، ويعود وهو في قمة التحضر والمدنية ليتقبل قرار أبيه بقتل شقيقته، طواعية، ولكنه يضمر ألا ينفذ قرار والده، فيأخذ شقيقته الحبلى، ويجري لها بمعاون زميله، عملية إجهاض. ويبقيها في القاهرة في شقته مع زوجته السودانية التي أحبها. مع أن الإجهاض في حد ذاته جريمة قتل. ولكن الطبيب المتحضر يمارسها من أجل تخفيف الضغط النفسي عن الأسرة التي تزداد فضائح بكبر بطن الضحية، كما أنه لا يريد أن يكون من بين الأسرة طفل غير شرعي.
يحاول طاهر إجراء عملية الإجهاض لشقيقته وتعاونه زوجته، شهدان، الطبيبة وزميلة التي أحبها، ويضمر في نيته قتلها أثناء العملية، لكن شهدان تتمكن من سبر أغواره واكتشاف نواياه، وتقرر إبعاده عن العملية، لأنها، أي شهدان زوجة طاهر، أن طاهرة لم ترتكب خطيئة وأن المجتمع هو الذي أخطأ في حقها حيث لم تتلق التعليم الذي يحصنها من الخطأ، فلم تعرف أن مني شقيقها العالق بملابس زوجته تسلل من خلال غشاء بكارتها الغربالي، واستعدادها في ذلك الوقت للحمل.
ومع تسليمنا بأن إجراء عملية الإجهاض كان ضرورة للهروب من فكرة القتل، وتقرر الدكتورة تقوم بتعليم طاهرة, رغم تخطيها سن التعليم الحفاظ عليها, وتلقينها مبادئ التمريض لتشغيلها معها في العيادة كممرضة.
استخدام اللهجة الصعيدية والأمثال الشعبية. من خلال الرحلة بين صفحات الرواية.
تتعرض الكاتبة بوعي كامل لعدد من القضايا لتي تنخر في مجتمعاتنا الريفية، وتطرح قضايا إشكالية في منتهى الخطورة. ومنها لجهل والتعليم وتدريس الجنس في المدارس، وقضية تعامل المدرسين مع تلك القضية التي فرضتها وزارة التربية والتعليم لتكون ضمن مقرراتها التعليمية. ليتم تدريسها فكل المدارس المصرية باختلاف أنواعها في المدن والقرى والأرياف والحضر، تطرح الكاتبة كيفية تعامل المدرسون مع تلك القضية الشائكة، ويختلف التعامل حسب جنس المدرس وحسب جنس التلاميذ ونوع تعليمهم. وتسجل الكاتبة فشل المعلمين في شرح المادة من خلال لوحة للجهازين التناسليين للمرأة والرجل. وتبدو المفارقة في اختيار طالب درس في الخارج ماجد ساويرس بكفاءة، وقام بشرح الجهازين التناسليين، رغم تهرب كل من المعلمات والمعلمين سواء المسلمين أو المسيحيين حتى لا يقوموا بشرح الدرس، فهل تق2صد المؤلفة أن الحضارة الغربية التي تعلم فيها ماجد سويرس والديانة المسيحية أقدر على التعامل مع تلك القضية الشائكة التي هرب منها كل المعلمين المصريين مختبئين خلف فكرة العيب.
الحقيقة أن الرواية جيدة، والوقت الذي قضيته معها ممتع، وشغلتني، أحداثها، وأعادتني إلى طبيعتنا الريفية المتأصلة فيها، وذكرتني بكثير من الأمثال الريفية التي نسيناها، كانت لتلك الأمثال ضرورتها الفنية لتضفي على الحدث واقع ريفي. وإن كانت بعض تلك الأمثال تلاشت الآن ولم نعد نسمعها إلا في المسلسلات الصعيدية التي تدور في الريف المصري على السنة ممثلين لا يحسنون نطقها.
ولكن توقفت عند سطور قليلة في الرواية. ربما عكست دون قصد فكر المؤلفة. عندما تحاول الأسرة حل مشكلة طاهرة عن طريق اللجوء لأحد المشايخ. وتجري لها حفلة تعذيب، وتصفعها يد خشنة، تنطفئ تحت أقدامهم، ينفر الدم من انفها وفمها ويتسرب الدمع من عينيها، تقتلع يد عفيه جذور شعرها، تركلها اقدام متوالية، تفتلاها من بين أيديهم يد حنون. يتم كل هذا في حضور الشيخ رجل الدين والذي يعلن عن فشله بقوله:
- قراركم من حقكم. إلا القتل.
وكأنه يبيح لهم أن يفعلوا بها ما يحلوا لهم.
ذكرتها المؤلفة وتدور بين طاهرة والدكتورة شهدان التي أنقذت حياتها فتقول المؤلفة كعادتها طاهرة، تضع بينها وبين من يجاورها كتاب الله, في هذه الليلة نامت طاهرة في حضن شهدان آمنة مطمئنة, تردد وردها الليلي تردد وراءها شهدان تستعذبه, تسألها عن مصدره:
- مين اللي حفظك الورد ده يا طاهرة؟ أنا عمري ما سمعت عنه.
- الراجل اللي كان يأكلني العنب والفول الأخضر لما بنام في الغيط [ ].
وهو يعكس عن سيادة الفكر السلفي، عندما يهيمن على عقول الناس، ومع فإن هناك تلميح بين السطور حول ما يدور بين النساء عندما ينمن معا، وهو ما يجعل طاهرة تضع المصحف بينها وبين زوجة شقيقها التي أنقذتها من الموت.
في النهاية تحاول الحكومة البحث عن ظاهرة التي غابت عن القرية وأخذها شقيقها لتقيم معه وزوجته في القاهرة.
ويدور هذا الحوار الساخر بين الضابط ووالد طاهرة عندما يسأله الأخير عن ابنته. فلا يجد ما يقوله، فتتقدم أمها وتقول للضابط.
- بنتي عند أخوها في القاهرة يا بيه، ولا الحكومة بتنع حد يعيش عند أخوه اليومين دول، أما عجائب يا ولإد؟
في النهاية تبقي رواية ستائر شفافة للكاتبة صباح عبد النبي وثيقة دامغة لتأثير الجهل وتغييب الوعي، المنتشر بين الأرياف، والذي بسببه تم قتل الكثيرات.
يؤخذ على الرواية استخدام اللغة العامية الريفية ومفرداتها بإسراف في الحوار، وهو ما جعل بعض المفردات تستعصي على الفهم، لعدم تداول تلك الألفاظ في الكتابة باللغة العربية العادية، كما القارئ من بلاد الحضر يجد صعوبة في استيعاب بعض الجمل، وخصوصا الأمثال التي كثل تداولها في الرواية دون ضرورة فنية تحتم ذلك.