جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

محمود خليل يكتب.. صراع النفوذ بين «الزاوية العثمانلى» و«المسجد المملوكى»

محمود خليل
محمود خليل

لم يتغير شكل الحياة السياسية فى مصر كثيرًا بعد سيطرة العثمانيين عليها. نعم أصبحت مصر «نيابة» بعد أن كانت «سلطنة» كما يقول «ابن إياس» فى كتابه «بدائع الزهور»، وأصبحت محكومة بوالٍ عثمانى، وتتوافر بها حامية عثمانية تتكون من مجموعة من الانكشارية، إلا أن ذلك لم يؤثر على أدوار المماليك فى الحكم، فقد تسلطن أمير الأمراء المملوكى الجركسى «خاير بك» على كرسى الحكم بعد خروج سليم الأول من القاهرة، وشكلوا مع الترك تحالفًا «تركيًا مملوكيًا» للسيطرة على بيت السلطة فى مصر. من حين إلى آخر كانت تقع مناوشات تتطور إلى فتن بين العثمانية والمماليك، لكن سريعًا ما كان يتم احتواؤها إعمالًا لمعادلة «المصالح تتصالح».
من الناحية السياسية أيضًا فقدَ حاكم مصر- بعد أن أصبحت نيابة وولاية تابعة للسلطنة العثمانية- لقب «خادم الحرمين الشريفين» واستأثر السلطان العثمانى بهذا الوصف، لكن ذلك لم يكن يعنى سلاطين المماليك كثيرًا، إلا من الزاوية المعنوية وهى زاوية يسهل ترميمها.
التغيير الحقيقى الذى شهدته مصر عقب سيطرة العثمانيين عليها مس الحياة الاجتماعية بالدرجة الأكبر. لم يكن الترك يشبهون المصريين فى الولع بالاحتفاليات والغرام بالفرجة أو المشاهدة، فقد كانوا كما يصفهم «ابن إياس» ذوى طباع فظّة وعادات اجتماعية غريبة على الحياة المصرية، وعلى المستوى الدينى كان بعضهم ميالًا إلى ترك طقوس العبادة الإسلامية فى الصلاة والصيام وغيرهما، خلافًا للمصريين المولعين بالاحتفالات الدينية، ويملكون طقسًا خاصًا بكل احتفال، كجزء من إحساسهم بمحبة الحياة، وهو الإحساس الذى تجذر فى وجدانهم عبر آلاف السنين.
كان المصريون أيضًا- خلافًا للترك- يحبون الفروسية ويهوون مشاهدة ألعاب السيف والرمح التى تربوا عليها عبر قرون مديدة من الزمن حكمهم فيها المماليك، وكان لديهم ولع خاص بمشاهدة المنافسات التى تتم فى ميدان الرميلة ما بين فرسان المماليك ويستعرضون فيها مهاراتهم القتالية بالأسلحة التقليدية، وقد تنغص الأهالى كثيرًا بالقرار التركى بإلغاء التجمعات الاحتفالية التى كان ينظمها المماليك فى ميدان الرميلة وغيره من ميادين القاهرة الأخرى، وكانوا يجدون فيها وسيلة لإشباع شغفهم التاريخى بـ«الفرجة».
أنتجت الثقافة العثمانية «التركية» أنماطًا أخرى من الطقوس الاحتفالية التى لم يشغف بها المصريون فى البداية، لكنها تسربت إلى حياتهم الاجتماعية وسكنتها بمرور الوقت. ومثلت «الزوايا»- جمع زاوية وهى عبارة عن غرفة صغيرة للتعبد- جوهر الثقافة العثمانية الجديدة التى حاول الترك أن ينافسوا بها المسجد المملوكى، ولا يخفى عليك أن المماليك كان لديهم شغف تاريخى ببناء المساجد وإعمارها، وكانت تمثل بالنسبة لهم رمزية شديدة الخصوصية.
اهتم المماليك بشكل خاص بإنشاء المساجد واعتبروها وسيلة من وسائل تخليد أسمائهم. ولعلك تعلم أن الولع بالمعمار كان جزءًا من العقلية المملوكية ظهرت آثاره فى النقوش الفريدة التى امتازت بها المساجد فى عصرهم. وقد تنوعت الوظائف المنوطة بالمسجد فى عصرهم، وكان من بينها إيواء الزهاد والمنقطعين إلى العبادة أو التصوف، لكن كان له إلى جوار ذلك العديد من الوظائف الأخرى، حيث شكلت المساجد مقرات سياسية وساحات للتواصل بين الأمراء وأولاد البلد، كما لعبت دور المدرسة واحتضنت الجهود التعليمية التى كانت تتم فى ذلك العصر.
لم يتمتع العثمانيون بالشغف المملوكى ببناء المساجد، بل استحدثوا ما يطلق عليه «الزوايا». وداخل هذه الزوايا نشطت- وأيضًا تشظّت- حركة تصوف كبرى أدت إلى تحولات ذات بال فى الشخصية المصرية. يقول الدكتور «توفيق الطويل» فى كتابه «التصوف فى مصر إبان العصر العثمانى»: «كان المتصوفة فى العصر العثمانى يقيمون جماعات تحت إدارة شيوخهم فى معابد أطلقوا عليها اسم الزوايا، طاعمين كاسين على نفقة المحسنين الأثرياء والأمراء، متجردين لعبادة الله منقطعين لذكره، زاهدين فى طلب الدنيا، معرضين عن لذاتها، قانعين فى بعض الأحيان بادعاء هذا السلوك، مهملين السعى فى طلب القوت، محتقرين العمل على اكتساب العلم والدين».
حملت الزاوية العثمانية المسكونة بشيوخ وجماعات التصوف تحولًا خطيرًا أصاب الشخصية المصرية، سواء فى التعاطى مع الدين أو التعاطى مع الدنيا. ولا أجدنى بحاجة إلى الاستفاضة. ولا أجدنى بحاجة إلى تبيان دورها فى التقديم الخرافى لـ«شيخ الطريقة» أو «الولى الصالح» وأثر ذلك على التصور الدينى لدى المصريين، وهو ما سأقوم به فيما بعد، لكننى الآن بصدد تحليل الأثر الدنيوى للزوايا الصوفية التى انتشرت فى العصر العثمانى على الحياة الاجتماعية للمصريين.
لعبت الثقافة الصوفية التى انتشرت فى زوايا المحروسة دورًا مهمًا فى ضرب مفهومى العمل والعلم لدى العديد من القطاعات الشعبية. فالتبعية للطريقة والولاء للشيخ بات سبيلًا لحياة مسترخية لا تتطلب من الفرد أكثر من أن يصبح جزءًا من الجماعة الصوفية، لتجرى عليه أرزاق المحسنين وتكفيه حاجته إلى الطعام والشراب، وتغنيه عن العمل أو البحث عن حرفة يتعلمها ويستعين بها على قضاء حوائجه المعيشية.
ولعلك تعلم أن سليم شاه بعد أن دانت له السيطرة على مصر اصطحب معه الكثير من الحرفيين والصناع المهرة من المصريين. ويذكر «ابن إياس» فى «بدائع الزهور» أنه فى «مدة إقامة ابن عثمان بالقاهرة حصل لأهلها الضرر الشامل، وبطل منها نحو ٥٠ صنعة وتعطلت منها أصحابها ولم يعمل بها فى أيامه فى مصر». والواضح أن الصناعات التى بطلت كانت مهمة، وتستوعب حجمًا كبيرًا من العمالة، وهو ما أدى إلى انتشار البطالة فى ذلك الوقت بشكل كبير، مما أضر بالمصريين أشد الإضرار. وقد أشار «ابن إياس» إلى أصناف من الحرفيين الذين تم سحبهم إلى إسطنبول قائلًا: «وتوجه إلى إسطنبول جماعة كثيرة من البنائين والنجارين والحدادين والمرخمين والمبلطين والخراطين والمهندسين والحجارين والفعلاء».
أصبحت الوسيلة الأيسر للعيش هى الذهاب إلى الزاوية والانخراط وسط أهل الطريق أو «أهل الله» كما اصطلح الشعبيون على تسميتهم. ولست بحاجة إلى تذكيرك بأن انتشار البطالة والفقر يدفع بالمتبطلين المتعطلين إلى التماس أيسر السبل إلى الكسب، وأبرزها السير فى طريق «أهل الله» الذين تجرى عليهم الأرزاق والعطايا والهدايا التى تأتيهم من «أهل المال».
التكسب بالدروشة دخل إلى الثقافة الاجتماعية للمصريين بالدرجة الأكبر بعد دخول العثمانيين إليها، وأصبحت للدراويش قيمة ومقام كبيران فى المجتمع المصرى. وليس يهم أن يكون لديهم علم بالدين أو بالدنيا أو أن تأتى سلوكياتهم موائمة لقيم الدين أو أصوله العقلانية، فالمهم أن يتمتعوا بما يجب أن يتوافر فيهم من قدرات احترافية للسيطرة على الأتباع، ودفع كبار القوم إلى التقرب إليهم.
ولو أنك تأملت حال بعض دراويش الزمن العثمانى، وبعض مشاهير الدراويش فى العصر الحالى، فقد لا تجد اختلافًا كبيرًا بينهما. فكما كان يذهب نجوم المجتمع المملوكى إلى زاوية الشيخ أبوالسعود الجارحى ليشير عليهم بمن يحكمهم، سوف تجد بين دراويش الفترة المعاصرة من يذهب إليه نجوم المجتمع من فنانين ورياضيين يلتمسون منه البركات ويتوقع لهم القادم على مستوى المنصب أو النفوذ أو النجاح فى دنيا المال أو الفن أو الرياضة وخلافه.