جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«كورونا».. تجارة الحياة والموت




الطبيعى أنك إذا رأيت شخصًا وقد «أغمى عليه» فى الشارع تهرول لإسعافه، ولست وحدك، فسوف يجرى ربما أسرع منك شخص آخر لسرقة محفظة الإنسان سيئ الحظ، هذا ما تقوم به الدول الكبرى التى تنتج شركاتها لقاحات ضد كورونا، ولا ترى فى أكثر من مليار إنسان فقير بحاجة إلى الوقاية سوى فرصة لتنظيف الجيوب.
وبمبدأ الربح الذى تدين به الرأسمالية أصبح الموت والحياة تجارة مربحة، وتحول الدواء والعلاج من حق أساسى إلى استثمار، حتى بلغت قيمة إيرادات صناعات الأدوية أكثر من تريليون دولار.. وحسب تقرير لمنظمة «أوكسفام»، فإن بعض الشركات حدد سعر الصمام الواحد من صمامات أجهزة التنفس لمصابى كورونا بـ«١١» ألف دولار.
وفى ظل الخوف من الوباء يتطلع ملايين الفقراء إلى اللقاح بأمل، لكن الدول الكبرى التى تنتج اللقاحات تسد كل طاقة نور، ويتأكد ذلك بعد إعلان «التحالف العالمى للقاحات والتحصين» (غافى) عن أن نسبة ثابتة من اللقاح سوف تخصص لسكان الدول الغنية وفيما بعد سيتم توزيع نسبة أقل من اللقاح على شعوب البلدان الفقيرة، وبينما تجاوز عدد الإصابات بكورونا فى العالم مائة مليون نسمة، فإن الدول الفقيرة ممنوعة من تصنيع تلك اللقاحات فى بلدانها لتوفرها بسعر أرخص لمواطنيها، وذلك لأن اتفاقية ١٩٩٤ لحماية الحقوق الفكرية حسبت أن هذا الإنتاج من الأدوية- أى اللقاح- ملكية فكرية محمية، مما يجعل إنتاج اللقاح حكرًا على شركات الدول الكبرى صاحبة براءة الاختراع: لقاح «ريمديسيفير» فى أمريكا، ولقاح «أسترازينيكا» البريطانى، والروسى «سبوتنيك- v»، ثم الصينى «سينوفارم»، والألمانى «كيوفارج».
وخلال السباق المحموم لإنتاج لقاح فعال، حذرت منظمة الصحة العالمية من اكتناز اللقاح على أساس قومى، منوهة بخطورة اتساع الهوة الدوائية بين الفقراء والأغنياء، لكن الدواء والعلاج اللذين يعدان حقًا أساسيًا لكل إنسان على الأرض تحولا فى ظل مبدأ الربحية إلى استثمار مربح على حساب موت الآخرين، واشتعلت، ليس الرغبة فى إسعاف المريض، لكن الرغبة فى سرقة محفظته، حتى إن الخبراء قدروا منذ عامين قيمة سوق صناعة اللقاحات بحوالى ٤٥ مليار دولار تحت هيمنة أربع شركات كبرى.
وهكذا يجد ملايين البشر أنفسهم تحت رحمة قانون الربح الرأسمالى الذى يشوه كل القيم الإنسانية، ولا يرى فى البشر سوى محفظة ومادة للاستغلال بدعوى «السوق الحرة» و«حرية رأس المال».. وبسبب إطلاق الملكية الخاصة من دون قيود يعيش الملايين تحت خط الفقر بدخل سنوى لا يتجاوز «٣٥٠» دولارًا، بينما ينعم شخص واحد مثل «جيف بيزوس» بمائة وثلاثين مليار دولار!.. تعبد الرأسمالية حرية رأس المال وتقدسها، لكنها خارج حرية الدولار لا تعترف بأى حريات أخرى حتى حرية الشعوب فى تقرير مصيرها، ويثبت ذلك تاريخ الغزو الاستعمارى الطويل والمخزى لبلدان آسيا وإفريقيا.
والآن فقط أخذ البعض يحدثنا عن «الفشل الأخلاقى» للدول الرأسمالية الكبرى، كأن ذلك الفشل لم يظهر ساطعًا من قبل فى الحرب الأمريكية الإجرامية على العراق وتدميره وتدمير ليبيا وسوريا وغيرها.. الرأسمالية لم تفشل أخلاقيًا الآن فقط فى ظل كورونا لكن قبل ذلك بزمن طويل، منذ أن حرصت على خفض الإنفاق الحكومى فى مجال البحث العلمى والطب الوقائى ومضاعفة الإنفاق على التسليح والجوانب العسكرية.. يحتاج العالم إلى صحوة ضمير لكى يدرك مجددًا كل ما هو بديهى وإنسانى لكى يعى ويعترف مرة وللأبد بأن الدواء حق لكل مواطن، ولا تجوز فيه تجارة ولا أرباح، وأن الدولة، كل دولة، ملزمة بالاهتمام بقطاع الصحة وعدم الانجراف إلى خصخصة الرعاية الطبية، وأن حرية رأس المال تنتهى عند الخط الذى تبدأ فيه حقوق البشر الأساسية، وفى مقدمتها حق الحياة، وأن الحفاظ على البيئة- لتجنب المزيد من الفيروسات- مهمة أساسية مطروحة على جميع الشعوب والدول.. أصبحت البشرية بحاجة إلى ميثاق جديد وطريق جديد، بحيث لا يصبح المرض فرصة لسرقة المحفظة.