جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«مصنع العازفين».. أول مدرسة متخصصة لدراسة العود في مصر (فيديو)

بيت العود العربي
بيت العود العربي


بمجرد أن تطأ قدميك في منطقة الأزهر بمصر القديمة، يخترق أذنيك صوت دندنة دافئ ورقيق، تُطرب له الأذن وتستريح به النفس، وتجد نفسك تلقائيًا تبحث عن مصدر هذه الموسيقى الرنانة، وإذا ما قادتك رغبتك حيث تلك الدندنة الهادئة الأنيقة، وجدت نفسك أمام بيت العود العربي.

في إحدى أزقة منطقة الغورية بمصر القديمة، وعلى مقربةً من جامع الحسين، يقع بيت العود العربي، الذي يظهر عليه التراث المعماري الأثري الذي يغلب على كافة مباني ومنشآت تلك المنطقة، ذات الطابع الإسلامي البحت.

هنا بيت العود العربي، أول مدرسة موسيقية متخصصة في مصر لتعليم العزف على آلة العود، فهو بمثابة معهد تدريب مركزي في تدريس الموسيقى العربية، وتم تأسيسه من أجل تخريج دفعات متتالية من عازفي العود في مكان مجهز لاستقبال الطلبة الذين يرغبون في تعلم العزف على آلة العود، بل ودراسة الآلة ذاتها بشكل محترف، بهدف العزف والتلحين والتدريس، وأيضًا المحافظة على تقاليد الموسيقى الشرقية.

زارت "الدستور" بيت العود العربي وقضت يومًا كاملًا مع طلابه ومدرسيه، وتجولت بين أروقة بيت العود، التي تحمل بين جنباتها عبق التاريخ وسحر التراث.

ـ قصة بيت العود

يعود عمر البيت إلى عام 1731، وينسب هذا المنزل إلى الطبيب عبد الرحمن باشا الهراوي، وهو آخر من آلت إليه ملكية هذا المنزل في سنة 1881، لذا يُطلق عليه أيضًا بيت الهراوي، والذي يعد ضمن مجموعة فريدة من المنازل الإسلامية، فيجاوره منزل وقف الست وسيلة، ويطل على المنزل الشهير لـ " زينب خاتون.

رُمم البيت عام 1986م بالتعاون بين المجلس الأعلى للآثار ووزارة الخارجية الفرنسية والمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، وانتهى الترميم في 1993م، وبعدها صدر قرار وزاري بتحويله إلى مركز إبداع فني عام 1996 ومنذ ذلك التاريخ اصبح البيت مزارًا أثريًا وفنيًا في نفس الوقت وانطلقت منه عدة احتفاليات ثقافية وفنية.

جاء الفنان العربي الكبير نصير شمه ليؤسس بيت العود العربى، والذي احتضنه منزل بيت الهراوي في عام 1998، ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك مكان لدراسة العود، لتكون أول مدرسة متخصصة وشاملة لدراسة كل ما يتعلق بآلة العود ليس في مصر فقط وإنما فى العالم.
ـ مدرسو بيت العود العربي: المكان الأمثل لتعلم العزف

التقينا طارق الأزهري، واحد من مدرسي بيت العود، الذي أكد أن دراسته للعود بدأت بمحض الصدفة، عندما رأى صديقه الفنان الكبير محمد أبو ذكري يعزف على العود أمامه، وهو ما جذب انتباه طارق حينها، وقرر أن يتعلم العزف على آلة العود، وعليه نصحه صديقه أبو ذكري الذهاب إلى بيت العود، الذي كان الأخير مدرسًا فيه آنذاك، وأقنع طارق وشجعه على هذه الخطوة، لكون بيت العود مدرسة متخصصة يتعلم أساسيات ومبادئ العزف فيها.. بحسب حديث "الأزهري".

كان يدرس "الأزهري" في ذلك الأثناء في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ولكنه أصر على دراسة العود أيضًا بجانب دراسته الأساسية؛ بسبب شغفه الكبير بالعود وإرادته في تعلم العزف، وكان ذلك سببًا في التأخر في دراسته الأكاديمية بكلية الحقوق نسبيًا، من أجل الالتزام بالدراسة في بيت العود.

يضيف "الأزهري"، أن الدراسة في بيت العود تستغرق نحو عامين، يدرس الطالب فيهما دراسة شاملة للآلة بالإضافة إلى قراءة النوتة الموسيقية، على أن يكون الطالب بانتهاء العامين قادر على العزف الفردي والممارسة بل والتدريس أيضًا، وأن يصبح واحدًا من طاقم مدرسي بيت العود إذا أراد هذا.

وتابع "الأزهري" حديثه عن مشواره الفني، قائلًا: " كنت أتطور بشكل سريع في دراسة العود، حتى أني تخرجت في عام 2014 دون أي تأخير عن عامين الدراسة، على الرغم من أني كنت أباشر دراستي الأكاديمية في كلية الحقوق، ومن المعروف أنها من الكليات الصعبة، وبعدما تخرجت قررت أن استمر في مجال العزف والتلحين، ولم أعمل نهائيًا بشهادتي الجامعية من كلية الحقوق، فشغفي كله ينصب على العود فقط".

واختتم المدرس ببيت العود، ناصحًا الجميع أن يستمر في تحقيق هدفه، بالضبط كما كان هو لديه هدف أمامه وعمل على تحقيقه وهو التخرج من بيت العود ليصبح مدرسًا فيه، وبالفعل كانت هي نقطة انطلاقه، ومنذ ذلك الحين وهو يعمل مدرسًا فيه، وساهم في تخرج العديد من الطلبة، كما أسس فرقة موسيقية يلعب العود فيها محركًا أساسيًا، وأقاموا عدد من الحفلات في دول مختلفة من العالم، ومن المخطط إقامة حفة الشهر القادم ففي كوريا، فلا زالت الفرقة تكبر بمجهوده هو وأصدقائه فيها.

وصف إسلام عبد العزيز، أحد المدرسين، بيت العود العربي بالمكان الأمثل لتعلم كل ما يخص العزف على آلة العود، بدايةً من العزف البدائي، مرورًا بالدراسة، والتلحين، وصولًا إلى قيادة الفرق الموسيقية والحفلات؛ مرجعًا أسبابه أنه يشرف عليه كبار عازفين العود في الشرق الأوسط وهو الفنان نصير شمه، والذي يقدم الدعم لجميع من يريد التعلم ويدخل مدرسة العود الذي كان له الفضل الكبير في تأسيسها.

بدأ "عبد العزيز" مشواره في بيت العود كطالب مثل أي طالب، وذلك بعدما حضر حفلة لنصير شمه مع أوركيسترا بيت العود، وحينما سأل عنه وأخبره أنه يريد العزف وأن يصبح مثله، ومثل كبار عازفين العود، وإذا بالأستاذ الكبير يشجعه ويدعمه ويدعوه للدراسة في بيت العود العربي، والذي تنبأ له بمستقبل باهر في هذا المجال، وسيصبح مدرسًا من بين مدرسي هذا المكان.

ذكر "عبد العزيز"، أنه عندما حضر الحفل وقابل الفنان نصير شمه، كان طالبًا في عامه الدراسي الأول بكلية الحاسبات والمعلومات آن ذاك، ولكنه أراد أن يتعلم العزف، ولم يكن يعلم أنه سيصبح مدرسًا في يوم من الأيام، فلم يكن هذا من بين خطته على الإطلاق، الذي لطالما كان يفكر في التخرج من كلية الحاسبات والمعلومات ليعمل في أيً من الشركات، ولكن كل هذه الخطط تبدلت بحضوره هذا الحفل.

تخرج "عبد العزيز" من بيت العود ليصبح مدرسًا فيه بمجرد انتهاء فترة دراسته، ولم يكن يولي الدراسة في كليته اهتمامُ كبيرًا إلا ليحصل على الشهادة فقط، وبحكم المجال وزيارته لدار الأوبرا المصرية تعرف على واحد من كبار عازفي العود، حازم شاهين، لتجمعهم صداقة وطيدة قادتهم إلى العمل سويًا، وبالفعل أصبح "عبد العزيز" عازفًا أساسيًا في الفرقة الموسيقية التي أسسها حازم شاهين، بجانب عمله وحفلاته الذي يشارك فيها في بيت العود العربي.
ـ طلاب بيت العود العربي: نحب العزف ونأمل في العمل كمدرسين

في البداية يقول محمود الصاوي، أحد الطلاب، إنه يتردد على بيت العود منذ عام 2013 تقريبًا، منذ أن أراد أن يمهد لنفسه طريقًا ومجالًا، لطالما يريد أن يحقق فيه شيئًا وخطوات جديدة، وهو دخول عالم التلحين، فكان وجهتههي بيت العود العربي، حتى يبدأ بالدراسة وإثقال نفسه من خلال دراسة العود فيه، واختار العود تحديدًا لأن هذه الآلة معروفة بأنها هي العامود الفقري في التخت الشرقي.

تخرجت في كلية الهندسة، وبدأت أواصل العمل بشهادتي كمهندس بجانب احتفاظي بهويتي كطالب في بيت العود، على الرغم من صعوبة مجال عملي وعدم استقراري بحكم تصفية الشركات أو تقليل الرواتب وجميع المشاكل التي يواجهها العاملون بالقطاع الخاص، إلا أنني لم أنقطع يومًا عن حضور الحصة في بيت العود، أينعم طالت فترة دراستي للعود وتأخرت كثيرًا عن ميعاد تخرجي، ولكن هذا بحكم ضغوطات العمل الخاص بي كمهندس، فلم يكن لدي الوقت الكافي للتمرين.. بحسب حديث "الصاوي".

التمرين المستمر هو أهم ما يميز الطلاب في بيت العود، يقولها "الصاوي"؛ لأن هذا ينعكس على آدائهم في العزف، ومدى تطورهم واحتمالية تخرجهم من البيت" في أقصر فترة ممكنة، مستطردًا، أنه لهذا السبب تأخر في التخرج؛ لأن العزف يحتاج إلى التمرين والممارسة المستمرة طوال اليوم دون انقطاع، ولكي ينظم بيت العود حفل تخرج للطلبة، يجب أن يكونوا على قدر من الاحتراف فضلَا عن مدى حفظهم وعزفهم المنهج الأساسي، والذي يتألف من مقطوعات الفنان نصير شمه.

بيت العود لم يستقبل الطلبة المصريين فقط، عليا أحمد، طالبة من دولة اليمن، تقول إنها في فترات الإجازات تأتي إلى مصر مع أسرتها، وتستغل هذه الفترات في الذهاب إلى بيت العود، حتى تستثمر وقت الإجازة في شيء هي تحبه وهو العزف على العود.

تحب عليا مصر كثيرًا وتعتبرها بلدها الثاني بعد اليمن، وكذلك الحال مع بيت العود العربي الذي تعشقه؛ لأنها معتقدة بأنه مكان هادئ وملائم بحيث أنه يشجع كثيرًا على التعلم كما يهيء النفس على الإبداع.. بحسب فتاة اليمن.

اتفقت معها في الرأي زميلتها روتاج يحيى، 25 عامًا، طالبة مصرية، تقول أنها اعتادت منذ صغرها أن تستمع إلى الأغاني الكلاسيكية لعظماء الفن مثل أم كلثوم وعبد الوهاب، وكانت تشاهد العازف والفنان الكبير فريد الأطرش وهو يعزف على العود والذي لُقب بملك العود، كما كان يستهواها ألحان عبد الوهاب، ومنذ ذلك الوقت وهي قررت أن تدرس آلة العود وتتمكن منها.

تقول "روتاج" إنها لا زالت طالبة حديثة العهد في بيت العود مقارنةً بالطلبة الآخرين، حيث لم تتجاوز الـ 5 أشهر بعد، مضيفة أنها كانت تؤجل خطوة تعلم العزف ودراسة العود كثيرًا؛ بسبب وقت الجامعة والامتحانات ومن ثم انشغالها بالعمل، ولكنها قررت أن تأخذ الخطوة وتسترق بعد الوقت لعمل الشيء الذي تحبه.

أما عن جمال فايق، الذي كلل الشيب رأسه وبدا عليه عوامل السن فقد تجاوز الـ 40 عامًا، إلا أنه لا يزال مواظبًا على دروس بيت العود، فيأتي قبل موعد الحصة الخاص به ويستقل إحدى غرف بيت العود الهادئة، ويبدأ وصلة عزف لأجمل المقاطع من أغنيات أم كلثوم، كما يستمر في التمرين على آخر مستوى وصل إليه من مقطوعات بيت العود.

يأتي "فايق" إلى بيت العود بشكل منتظم، فيقول، أنه بعدما ينتهي من دوام عمله يتوجه إلى بيت العود، ويستمر في التمرين إلى أن يحل ميعاد حصته، ويأتي دوره مع زملائه ليتلقوا جزءًا جديدًا من إحدى المقطوعات الموسيقية.

ثلاثة أيام من الأسبوع يستقبل بيت العود طلابه، هم السبت والإثنين والأربعاء، بحسب "فايق"، الذي أكد أن الأسبوع يشمل ثلاث حصص تستغرق كل منهم قرابة نصف ساعة، يتعلمون لحنًا جديدًا، ويختبرهم المدرس في الحصة السابقة، ليرى مدى تطور الطالب معه، وما وصل إليه من مستوى؛ لأن المدرس هو من يقرر إذا كان الطالب بصدد أن يتخرج ويستحق أن ينال حفل وشهادة بيت العود أم لا.

ـ الأفضل في عام 2003

أُختير بيت العود العربي كأفضل مشروع لتنمية الشباب العربي في مجال الإبداع من قبل الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وذلك عام 2003.

تم تطبيق نموذج بيت العود في عدد من الدول العربية، وذلك بعدما شهد نجاحًا كبيرًا في مصر، فيتم تأسيس نموذجًا مثله في دولة الجزائر عام 2005، وفي الإمارات العربية المتحدة وبالتحديد في إمارة أبو ظبي عام 2007، ويعمل الآن الأستاذ نصير شمة على افتتاح بيت العود بدولة السودان.