جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مجرد رسالة من عجوز

حسين السنونة
حسين السنونة

لا أعلم، لا أعرف هل ستصل رسالتى لك أم لا؟، ولكن إن وصلت فاذهبى فى الصباح الباكر جدًا إلى غرفتى، وافتحى النافذة، وانظرى إلى السماء، وقولى: صباح الخير يا رب، ثم أطلقى نظرك إلى الأمام، إذا كانت الأرض كما هى خضراء وطيور تغنى بصوت خفيف قولى: سبحان الخالق، ثم اذهبى للدولاب الأزرق وافتحى الدرج الأسفل فسترين صورًا لى من بينها صورة لى وجدتك أيام الشباب كنا فى حديقة تمتاز بالورد، وكانت أجمل وردة فيها هى جدتك، عودى بعد ذلك إلى النافذة وانظرى إلى الأمام، البيوت التى فى وجهك مباشرة عدى من اليمين ثلاثة بيوت، البيت الثالث صاحبه هو من أبلغ عنى عند الأمن المركزى، كنت على وشك الاعتقال بتهمة الخيانة العظمى، ولكن صاحب المنزل الرابع أخبرنى قبل وصولهم وهربت، وعلمت بعد سنوات أن الذى بلّغ عنى اعتُقل ومات بعد خروجه من السجن بأيام، انظرى يسارك فى ذلك البيت فتاة هى الآن عجوز مثل جدك، كنت أحبها من طرف واحد، بكيت عندما تزوجت، علمت فيما بعد أن الشعور نفسه كان موجودًا لديها، ولكن لم تكن هناك خطوة من أى طرف، سلمى عليها جدًا، وانظرى إلى عينيها إن رأيت بريقًا، فاعلمى أن هناك آهات قلبية لزمن ماضٍ.
صغيرتى مريم التى لم أرها إلا عبر صورة مرسلة، انظرى إلى الشارع الذى يفصل ما بين البيت الذى أنت فيه والبيوت التى أمامك، هذا الشارع كنا نُجمع فيه كل شباب المدينة نلعب ونرقص ونسمع موسيقى ليست صاخبة، كانت مجموعة من الألعاب نمارسها دون توقف حتى يخنق الليل النهار ونعود إلى المنازل، وكانت أجمل الأيام عندما تمطر أو تقترب الامتحانات يزداد اللعب جمالًا ولذة، كان الجميع يقف هنا الكبار والصغار، كنا نعتقد أن أى شىء يقوله الكبار هو علم ومعرفة وصحيح، ولكن عندما كبرنا وتعلمنا اكتشفنا أنهم تماثيل صُنعت بأيدينا.
من بين الصور هناك صورة شاب وسيم جدًا وأنيق جدًا، أعتقد يلبس كرفتة حمراء، وقميصًا أبيض، كان يقول إنه شيوعى، فكنت أناديه «شيوعى» وهو ينادينى «قومى عربى»، ونضحك، كان الشعار هو الاحترام والتقدير، سمعت فيما بعد أنه مات تحت أقدام ضابط لا يمتلك حتى الشهادة الأقل من الابتدائى، كانوا يريدون منه معلومات عن اللون الأحمر وأسباب ارتدائه الكرفتة الحمراء، هل تعلمين لقد أوصى أحد زملائه فى السجن بأن يبلغنى سلامه، «بلغ سلامى للقومى العربى مجيد، وقل له أخوك الشيوعى الأحمر مات دون أن..».
لو خرجت خارج البيت وجعلت ظهرك للباب، اختارى المشى على يمينك سترين بعد مائتين متر عمارة، أعتقد من خمس طوابق، كان ممنوعًا البناء أكثر من خمس طوابق، حتى لا يركب الفقراء على السطح، ويشتكون لله ما يتعرضون له من بنى البشر، هذه العمارة يسكنها مدرس من إحدى الدول العربية، كان دائمًا يحدثنا على فلسطين، والحروب، وعبدالناصر، العيون الوقحة بلّغت عنه وتم طرده من البلد، وتحت العمارة هناك بقالة أعتقد تبيع الصحف والمجلات، كنا نحجز عندها مجلات «العربى» و«الحدث» و«المستقبل» وغيرها من المسموح بيعه، كنت أسرق مبلغًا من جيب أبى واشترى هذه المجلات وأقوم بقراءة بعض الأخبار له، وبعدها كان يعطينى مبلغًا تشجيعًا ولكنى أعتذر منه، فينظر لى نظرة أعلم ويعلم أنه يعلم من أين اشتريت الصحف والمجلات.
فى المقابل حينما يطلق عليه الآن الحى الجديد، أقيم على أنقاض البيوت القديمة، وهى تراث، ولكن نحن فى عالم لا يحترم الماضى ولا التراث، تم بيعها بثمن بخس، المضحك أن بعض التجار كان يعلم «بالقص»، فقام واشترى من الفقراء بيوتهم، ثم باعها هو على أصحاب «القص»، المضحك أكثر أن بعض هؤلاء يتكلم عن الفساد والإنسانية، وكيف أنه قام ببناء نفسه من الصفر، ولا أعرف أى صفر يعنى، وسمعت أنه قبل أشهر قام بتأليف كتاب عن مذكراته، ولكن للأسف لم يذكر قصة «القص» لربما خاف من الحسد.
أعلم أنك تفكرين باستغراب وأنت عائدة إلى المنزل، أنى لم أحدثك عن المنزل الكبير المتميز فى آخر الشارع، هو منزل العائلة تسمى عائلة الكهرباء وهى تتوارث المناصب والمسئولية فى المدينة، حتى أن جدهم يقال إن مؤخرته ضخمة جدًا بسبب جلوسه سنوات طويلة على كرسى المسئولية، لدرجة أنه عندما تقاعد واستلم ابنه يقال إن الكرسى تنفس، واقترح أحد أبناء العائلة تغيير اسم العائلة من الكهرباء إلى كرسى.
خلف البيت هناك حديقة صغيرة فى آخر الشارع، وفيها شجرة كبيرة متميزة بطولها وقربها إلى الأرض بشكل قريب من الدائرة، بجانبها شجرة صغيرة وأرض شاسعة لا أعلم هل الأرض ما زالت موجودة أم أن مسئولًا سرقها وقسمها ليبيعها على عبابيد الأرض، الشجرة مكتوبة على جزعها كلمات وأشعار وأسماء لمجموعة من الشباب، هل تصدقين حفيدتى مريم، مكتوبة أيضًا أسماء من أحببناهم ونحن صغار، ومكتوب حوار بينى وبين أعز إنسان وصديق لى، كنت أقول له وهو يجيب، هل تتمنى أن تكون عسكريًا؟
- لا.
- لماذا؟
- لربما أعذب بشرًا مثلى أو أرفض فأكون مفعولًا به.
- إذن لتكون عضوًا فى البرلمان.
- لا.
- لماذا؟
- أخاف أن يشتمنى الجيران ويسخر منى كبار السن أو أكون محترف تطبيل.
- إذن ماذا تريد أن تكون؟
- أن أكون إنسانًا.