جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حكاية الأزهريين الذين تلقوا تعليمهم من الرهبان المسيحيين

لويس مالوس
لويس مالوس

في كتابه "انطباعات عن مصر" للرحالة الفرنسي لويس مالوس٬ والصادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة٬ ونقله للعربية د. رشيد برهون، يرصد الرحالة أثر الثقافة الفرنسية في المجتمع المصري أوائل القرن التاسع عشر٬ وأهم المدارس التي أقامتها الإرساليات التبشيرية الفرنسية٬ ورغم أن من أسسوا وأداروا هذه المدارس كانوا من الرهبان والراهبات٬ إلا أنها لم تشترط ديانة معينة في الالتحاق بها٬ فكانت تضم المسيحيين والمسلمين واليهود جنبا إلى جنب.

ويذهب "مالوس" إلي أن رهبان المدارس المسيحية أول من استقر في مصر٬ وكان محمد علي قد استدعي بإلحاح من الجالية الفرنسية الآباء اللازاريين بالإسكندرية٬ ومنحهم سنة 1884 مقرا شريطة أن يشيدوا هناك مدرسة وبما أن التعليم لم يكن من بين اهتمامات اللازاريين فإنهم استدعوا بدورهم رهبان المدارس المسيحية وكلفوهم بالقيام بذلك، وسارع الرهبان بفتح مدارس مجانية لاقت نجاحا منقطع النظير٬ إلي درجة أن سعيد باشا وهبهم مقرا واسعا ومبلغا ماليا مقداره 30 ألف فرنك بمقتضى اتفاق عقده مع فرنسا يلتزم بموجبه الرهبان بأن تظل المدرسة مفتوحة الأبواب بالقاهرة دائما، وهكذا أصبح الرهبان يشرفون علي مدرستين٬ واحدة بالقاهرة والأخرى بالأسكندرية.

وعرفت المدرسة إقبالا كبيرا٬ حيث وصل عدد تلاميذها سنة 1870 إلى 400 طالب وإبان أحداث 1882 (يقصد الثورة العرابية) التجأ إليها 200 شخص تكفلت المدرسة بإيوائهم وإطعامهم طوال 20 يوما، وأظهر أحمد عرابي عطف كبير علي المدرسة ومسيريها٬ إلى حد أنه عبر لهم عن استعداده لتخصيص حرس للمؤسسة إذا رغبوا في ذلك، وما أن استتب الهدوء حتى استأنفت المدرسة عملها التربوي٬ وكانت تضم حينها 30 راهبا ومدرسا وما بين 500 و600 تلميذ، وظلت مدرسة الإسكندرية مغلقة الأبواب خلال الفترة التي استغرقتها الأحداث، وأمام نجاح هذه التجربة قرر الرهبان توسيعها لتشمل مدنا أخري٬ فأسسوا مدراس جديدة في أماكن متفرقة في مصر منها مدرستين ببورسعيد٬ ومدرستين بالمنصورة٬ وواحدة بالسويس٬ وأخري بالرملة٬ ومدرسة أخيرة بطهطا.

ـــ تسامح وانفتاح الرهبان فيما يخص ديانة طلابهم
يؤكد "مالوس" علي أن تلاميذ مدارس الرهبان الفرنسية تمتعوا جميعا من كل الجنسيات (وهم في أغلبيتهم من اليونانيين أو اليهود٬ أو المسلمين) بالحرية الدينية المطلقة٬ ويلزم المدرسين أنفسهم بعدم ممارسة الدعوة الدينية بأي شكل من الأشكال٬ وكل طفل يسعى إلي المس بديانة أحد رفاقه يعاقب بصرامة.

وخلال رمضان وغيره من المناسبات الدينية غير المسيحية يمنح التلاميذ كل التسهيلات والتراخيص الضرورية لممارسة شعائرهم. وذات يوم عندما قدم أحد المسلمين ابنه إلي المدير قائلا: "لن يكون هناك طبعا أي تدخل في معتقدات ابني الدينية"، أجابه المدير: "لن نكتف بعدم التدخل في دينه وإجباره علي اعتناق الديانة المسيحية٬ بل إننا سنمنع عليه ذلك منعا باتا."

ــ مؤذن المسجد الذي درس علي يدي الرهبان المسيحيين
يحكي الرحالة الفرنسي عن قصة حقيقية كان شاهدا عليها٬ يقول: "وخلال إحدي زياراتي للرهبان قادني المدير إلي شرفة المدرسة حيث يمكن للناظر أن يتملى من عل في المدينة المنبسطة أمام عينيه٬ واستوقفني منظر كل تلك الأسطح التي تجللها هنا وهناك٬ زخارف علي شكل أجراس شامخة فوقها٬ بينما الشمس تتوارى خلف كثبان الصحراء، كان وقت الأذان٬ والمؤذنون يرفعون أصواتهم الشجية من أعلى المآذن فتصلنا من كل الجوانب تأوهاتهم المتكررة مثل كلمة السر التي تتلى علي مسامع الجنود.

وأشار لي الراهب إلي أحد المساجد القريبة منا التي يصل إلينا منها صوت المؤذن واضحا خافتا٬ وأساريره تشي بسروره٬ وقال: "في هذا المسجد يوجد أحد أكبر الشيوخ الدينيين في القاهرة تأثيرا٬ لقد درس عندنا٬ ومازالت تربطه علاقات مودة صادقة مع أساتذته القدامي٬ وهو لا يتردد في زيارتنا بين الفينة والأخرى٬ ولم يبخل علينا في مناسبات عديدة بمساعدته"، مضيفا ويوجد اليوم من بين تلامذتنا شيخ آخر من الأزهر يتابع 5 ساعات من الدروس يوميا٬ لا غرو إذن أن يعامل عامة الأهالي هؤلاء الرهبان باحترام ومودة في بلد يقاس فيه كل شيء بالمقياس الديني.