جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

محمد القصبي يكتب: عدالة هشام عزمي ومجلسه الهزيل!

محمد القصبي
محمد القصبي

في تصريحاته الصحفية لـ"اليوم السابع" بتاريخ 9 ديسمبر من العام الماضي قال الدكتور هشام عزمي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة أنهم يسعون إلى تحقيق العدالة الثقافية، وكان ذلك بمناسبة إعادة هيكلة وتطوير لجان المجلس.

ولا أظن أن الدكتور"عزمي" يعني العدالة الثقافية في منطلقاتها الأولية جدا أن يعكف المجلس الأعلى للثقافة على صياغة رسالة من الفكر المستنير بالغة التأثير ويسعى لتوصيلها إلى المراكبي الذي لا يبعد عن مكتب الأمين العام للمجلس بأكثر من 50 مترا هذا المراكبي هو الذي يتزوج ويطلق مثنى وثلاث ورباع هو الذي ينجب عشرة وعشرين بعضهم لا يجد ملاذًا له إلا تحت الكباري بعضهم من السهل أن يتحول إلى أحزمة ناسفة في أيدي التنظيمات الإرهابية.

ومثل هذا المراكبي ملايين المواطنين البسطاء في قاع مصر يهدرون على مباخر الدجل والشعوذة عشرات المليارات من الجنيهات سنويا تلك هي العدالة الثقافية بمنطلقاتها البديهية التي ينبغي أن يسعى المجلس وكل هيئات وزارة الثقافة على تحقيقها وما أنشئت الوزارة وهيئاتها، وخُصص لها مليارا جنيه سنويًا من "لحم الحي" إلا لتحقيقها.

هذا المفهوم الأولي والبديهي غائب عن أجندة د. عزمي فكما نرى المجلس يزنزن أنشطته في قاعاته الفخمة شبه الخاوية والعازلة للصوت فلا يصل ما يجري بها حتى لركاب محطة المترو المجاورة، لذا طالبت في أكثر من مقال ولن أكف عن المطالبة باستبدال هذا المجلس الهزيل بمجلس آخر للثقافة يرأسه رئيس الجمهورية تُسنَد إليه سلطة الإشراف على كل الوزارات والمؤسسات المعنية بدماغ المصريين مثل وزارات الثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالي والإعلام والشباب والرياضة والأوقاف، وحتى الأزهر.

والهدف تنفيذ مشروع قومي لإعادة هيكلة دماغ المراكبي على أسس من العقلانية والاستنارة الفكرية وتكريس قيم الأمانة والعدل والانتاج والجمال والتكافل والسلام، تلك هي العدالة الثقافية التي أنشىء المجلس والوزارة من أجل تحقيقها، لكن أظن أن هدف د.عزمي من سعيه لتحقيق العدالة الثقافية يكاد يكون مزنزنًا في اهتمامات وتطلعات بضعة مئات أو حتى آلاف من النخبويين وليس المئة مليون "مراكبي".

فلا يغيب عن بال أحد أن أكثر الاختبارات استقطابًا لاهتمام المثقفين في مصر فيما يتعلق بـ"عدالة المجلس" هو جوائز الدولة: هل تذهب لمستحقيها؟ والإجابة في كثير من الأحيان: لا فماذا بعد حديث عزمي عن إعادة هيكلة لجان المجلس لتحقيق العدالة الثقافية هل طرقت الجوائز هذا العام أبواب مستحقيها؟

وأظن أنني أخطأت في صياغة السؤال فلا "غنيمة" تطرق باب أحد في مصر سواء جائزة أو منصب أو مكافأة عليك أنت أن تجيِّش سلندراتك وسلندرات من تعرف ومن لا تعرف ليس في تنمية قدراتك وتعميق مرجعيتك المعرفية بل في طرق الأبواب وتكسيرها إن لم يُجدِ التوسل رافعًا شعار "لا فيها لا أخفيها"، على أية حال سؤالنا هو: هل كشرت عدالة د.هشام عزمي عن أنيابها خلال الشهور الماضية لتتوارى أمامها كافة المعايير المشبوهة فغنم الجوائز من يستحق؟

لقد نوهت من قبل إلى أن أنشطة المجلس الأعلى للثقافة مزنزنة في قاعات فخمة جدرانها عازلة للصوت فلا يصل صراخ فرسان منصاتها لركاب محطة المترو المجاورة، وأضيف ما قلته مرة من قبل في مقال بمجلة القصة أن جدران الغرف السرية في المجلس من زجاج شفاف كل ما يحدث بداخلها من مداولات بشأن جوائز الدولة أو أي شأن آخر من السهل رصده من الخارج.

ومما تم رصده هذا العام تلك الخلفيات الكارثية التي تتعلق بجائزة الدولة التشجيعية في الآداب- فرع نقد النص الشعري، فالمُعلَن أولًا أنه تم حجب الجائزة بناء على تقارير ثلاثة من أعضاء لجنة التحكيم هم: د.رشا صالح، ود.محمد عبد الله حسين، د. محمد محمد عليوة، أما عضو اللجنة الرابع د.محمد أحمد بدوي فكان له رأي مغاير، منح الجائزة للدكتور رضا عطية إسكندر عن كتابه "تجربة المكان في نص سركون بولص".

وحتى لو اتفقت رؤية مقرر اللجنة د.جلال أبو زيد هليل مع رؤية د.محمد بدوي باستحقاقه د. رضا عطية للجائزة فالأغلبية في هذه الحالة لمن يرون حجب الجائزة "ثلاثة مقابل اثنين" ولقد كان التراجع عن قرار حجب الجائزة سريعا، أمام سطوة قرار آخر منح الجائزة للدكتور رضا عطية، وكما نلحظ حجب الجوائز خاصة التشجيعية ظاهرة سنوية.

وعلى غير ما يظن البعض الحجب قد لا يعني خللًا في آليات التحكيم كما هو الحال مع جائزة الدولة التشجيعية في الآداب- فرع نقد النص الشعري هذا العام، لقد قرأتُ بعضًا من التقارير الثلاثة التي أوصت بالحجب وهي تقارير مقنعة صادرة عن قامات لها ثقلها الأدبي، وما لا يقل أهمية مشهود لهم عبر مسيرتهم الأكاديمية بنزاهتهم العلمية.

فإن كان ثمة خلل مع حجب العشرات من جوائز الدولة كل عام، فليس في تدني المستوى العلمي والإبداعي والنقدي في مصر بل في عزوف المئات من الكتاب والباحثين عن التقدم بأعمالهم يأسًا من الحصول على الجائزة بسبب ما يرونه من غياب العدالة، وبالتالي قد يجد المحكمون أنفسهم أمام أعمال متدنية المستوى.

في عام 2018 حصل أحمد مراد على جائزة الدولة للتفوق وبدا الأمر وكأن هناك قرارًا مسبقًا بمنحه الجائزة لرواج الاسم خاصة مع تحويل بعض أعماله الأدبية إلى دراما سينمائية وتليفزيونية وبالتالي لماذا يقرأ أعضاء لجنة التحكيم الأعمال الأخرى إن كان ثمة اتفاق منذ البدء على منحه الجائزة؟ وأعرف روائيًا أراه يكتب جيدًا كان أحد المتقدمين للجائزة ذاك العام وحين مُنِحت الجائزة لأحمد مراد قرر ألا يتقدم مرة أخرى، ومثله كُثرُ.

وهناك من يتعففون على الترشح لجوائز الدولة وهؤلاء أيضا كُثرُ ولا أبالغ إن قلت أن من يتجاهلون الجوائز من كتاب وباحثي مصر أضعاف المحمومين بها، ومنذ عدة أشهر التقيت بكاتبة من هؤلاء المحكومين ولا جائزة حتى لو كانت في مسابقة مدرسية إلا وتتقدم لها كانت تشكو لي الظلم الذي تعرضت له حين حالوا بينها وبين جائزة تقدمت لها ومنحوها لغيرها، سألتها في دهشة: "ليه بتقديمي للجوائز"، فأجابت بأسى: الفلوس أشفقت عليها اختزالها كل طموحها في الجوائز في هدف واحد: الفلوس "لديها ابن وابنة على وش جواز وعاوزة تسترهم".

وللأسف هذا حال الغالبية حتى القلادة الذهبية التي ينبغي أن تورث للأحفاد جيلا وراء جيل التي ينبغي أن تكون مثار فخر العائلة قبل أن يتسلمها الفائز يفتش عن مشتر لها حتى لو كان ميسور الحال، لقد دفعني غياب العدالة الثقافية عن منظومة جوائز الدولة منذ ما يزيد عن عشر سنوات إلى الدعوة لإطلاق ما أسميته بـ"جائزة الشعب" خلال أكثر من مقال لي والمستهدف بالدعوة كل المثقفين الحقيقيين ضمائر أمتهم ورأس حكمتها.

هؤلاء غير المحمومين بالقيمة المادية للجوائز عليهم أن ينصرفوا عن جوائز "الدولة" التي ليست بجوائز دولة وعن هذا المجلس الهزيل المسمى بمجلس أعلى للثقافة الذي لا يدري بأمره سوى بضعة آلاف من المئة مليون مصري وبالتالي أوهى من أن يؤثر في مجتمع أوكسيجين مواطنيه الروائح النتنة التي تفوح من مستنقعات الجهل والقبح والفساد والدجل والشعوذة، لننصرف إذن عن هذا المشهد الزائف ونطلق جائزة الشعب.

جائزة الشعب تلك يمكن تجميع قيمتها من تبرعات الشارع حتى لو كانت الحصيلة جنيهات قليلة حتى لوكانت أكلة فول وطعمية في مطعم شعبي، فقيمتها تستمد من عدالة اختيار مستحقيها وفي هذه الحالة ستتجاوز قيمتها من منظور المثقف الحقيقي تلك الجوائز التي يطلقون عليها ظلمًا جوائز الدولة، وعلى قدر علمي أن كل ما يحصل عليه الفائز بجائزة جونكور الفرنسية دعوة لتناول الطعام في مطعم دروون بباريس ومع ذلك شاع أمرها وأصبحت إحدى أهم الجوائز الأدبية في العالم خاصة في شطره الفرنكفوني.

ورغم حماسي لدعوتي تلك –إطلاق جائزة الشعب- ولو بقروش قليلة من تبرعات الغلابة- تطرق أبواب الكتاب من منطلق واحد لا منطلق سواه جودة الكتابة إلا أنني ألح في سطوري تلك على ماسبق أن أشرت إليه مرارًا من قبل أن التكريم الحقيقي للكاتب إن كان بالفعل قيمة إبداعية يأتي ليس من مانحي الجوائز إنما من القارئ.

ولنتذكر أن ألبرتو مورافيا لم يحصل إلا على جائزة "فياريجيو" من بلده إيطاليا رغم أن تأثيره في القاريء عبر العالم تجاوز العشرات ممن حصلوا على نوبل، ومثله باولو كويلو صاحب "الخيميائي" التي ترجمت إلى 80 لغة وتجاوزت مبيعاتها 150 مليون نسخة عبر القارات الست وغيرهما كُثرٌ حرموا من كبريات الجوائز العالمية لكنهم في الحقيقة حصدوا الجائزة الكبرى.

إن لهفة القارئ على ما يكتبون تلك أُم الجوائز التي تتضاءل أمامها كل الجوائز في الجغرافية العربية والعالمية وهذا هو التكريم الحقيقي للكاتب لكن هذا التكريم الأسمى غائب ذلك لأنه لا يوجد قارئ مع تحول وزارتي التربية والتعليم والتعليم الجامعي إلى وزارتين للتلقين ومع أعاصير الجاهلية البدوية التي هبت علينا منذ السبعينيات من شرق البحر الأحمر وضببت العقل الجمعي بالجهل والتخلف انقرض القارئ.

لذا الجائزة الكبرى الآن إطلاق مشروع قومي لإعادة هيكلة إعادة هيكلة دماغ المصريين على أسس من الاستنارة الفكرية والعقلانية مشروع يتولى تنفيذه مجلس أعلى للثقافة غير مجلس الحالي الهزيل بل مجلس يرأسه رئيس الجمهورية وتخضع لسلطته كل الوزارات والمؤسسات المعنية بصناعة الوعي الجمعي مع مشروع مثل هذا ترتقي بالذائقة الجمالية للمصريين ويؤجج دماغ كل منهم بشهوة المعرفة فتتحول إلى شعب قروء لتتضاعف مبيعات الكتب وهي كتب الإبداع والفكر المستنير وليس النقاب فريضة لإعادة إلى ملايين النسخ، تلك هي العدالة الحقيقية التي ينبغي أن تضخ بلازما الوعي في شرايين المراكبي تلك هي الجائزة الكبرى التي ينبغي أن يتطلع إليها كل كاتب.