جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الشيخ حسونة النواوى.. الإمام الشجاع




وُلد حسونة بن عبدالله النواوى الحنفى بقرية «نواى» بمركز ملوى بمحافظة المنيا سنة ١٨٣٩م، أتم حفظ القرآن، ثم التحق بالأزهر، وتلقى الدروس على أيدى كبار مشايخه، مثل الشيخ الإمبابى، والشيخ عبدالرحمن البحراوى، والشيخ على خليل الأسيوطى.
لما فرغ فضيلته من الدراسة جلس لتدريس أمهات الكتب العلمية، فأقبلت عليه جموع الطلاب ولفت إليه الأنظار، فاختاره القائمون على الأزهر لتدريس الفقه فى جامع «محمد على باشا» بالقلعة، بجانب تدريسه له بالأزهر، ونظرًا لكفاءته وعلمه الواسع الغزير عُيِّن بجانب ذلك أستاذًا للفقه بكلية دار العلوم، وكلية الحقوق التى كانت تسمى حينئذ «بمدرسة الحقوق»، وفى عام ١٨٩٤م انتُدب وكيلًا للأزهر، وذلك لمرض الشيخ الإمبابى وعجزه عن مباشرة مهام عمله، ثم صدر قرار بتعيين لجنة لمعاونته فى إصلاح شئون الأزهر، وكانت مكونة من: الشيخ محمد عبده والشيخ عبدالكريم سلمان والشيخ سليمان العبد والشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوى والشيخ أحمد البسيونى الحنبلى. كما عُيِّن فضيلته عضوًا دائمًا غير قابل للعزل بمجلس شورى القوانين. فى عام ١٨٩٥م أصدر الخديو عباس حلمى الثانى قرارًا بتعيين الشيخ حسونة النواوى شيخًا للجامع الأزهر بعد استقالة الشيخ الإمبابى لمرضه.
بادر الشيخ «حسونة النواوى» إلى الدعوة لإصلاح الأزهر منذ أن تولى المنصب الجليل، وارتبط اسمه بالقانون الذى صدر بعد سنة واحدة من توليه المشيخة فى ١٨٩٦م، وكان للشيخ «محمد عبده» يد صادقة وراء إصدار هذا القانون، الذى خطا بالأزهر خطوة واسعة نحو الإصلاح، إذ حدَّد هذا القانون سن قبول الطالب بالأزهر بخمسة عشر عامًا، وأن تكون له دراية بالقراءة والكتابة، وأن يكون حافظًا للقرآن الكريم أو على الأقل نصفه، ومنع هذا القانون تدريس كتب الحواشى منعًا باتًا، وقصرها على الطلبة المتقدمين دراسيًا، ونظم القانون الامتحانات، وجعلها على مرحلتين: الأولى بعد ثمانى سنوات من التحاق الطالب بالأزهر، وتحصيله ثمانية علوم على الأقل من علوم اللغة والدين، ويُختبر أمام لجنة تتكون من ثلاثة علماء برئاسة شيخ الأزهر. والناجحون، إما أن يكملوا دراستهم بالأزهر فى المرحلة التالية، أو يتم تعيينهم فى وظائف الإمامة والخطابة والوعظ بالمساجد. وأما المرحلة الثانية فتنتهى بامتحان الشهادة العالمية لمن أمضى اثنتى عشرة سنة من الدراسة، وتلقى العلوم المقررة بالأزهر، ويصبح من حق الحاصلين عليها التدريس بالأزهر. وعنى القانون بشئون الطلاب، فاهتم بتحسين أحوالهم المعيشية، وتوفير المساكن الصحية لهم، وحدد لهم بعض المساعدات المالية.
عاش الشيخ الإمام حياة كريمة، أدى بها للمنصب واجبه ووقف أمام الحكام مواقف كريمة، حين تتجاوز سلطاتهم الحق، وتتعدى الواجب. ففى عام ١٨٩٩م وقع خلاف كبير بشأن إصلاح المحاكم الشرعية، وعرض على مجلس شورى القوانين «البرلمان» اقتراحًا بندب قاضيين من مستشارى محكمة الاستئناف الأهلية، ليشاركا قضاة المحاكم الشرعية العليا فى الحكم، فوقف الشيخ «حسونة» ضد ذلك الاقتراح، وكان الإمام عضوًا فى مجلس شورى القوانين، وجرت مناقشة بين الشيخ ورئيس النظار «مجلس الوزراء» مصطفى باشا فهمى، انتهت بأن غادر الشيخ الجلسة غاضبًا محتجًا.
وحاول الخديو «عباس حلمى» أن يحمل الشيخ الإمام على قبول الاقتراح بعد تعديله، وتغيير ما يراه مخالفًا للشرع، لكن شيخ الأزهر أصر على موقفه، وقال للخديو: «إن المحكمة الشرعية العليا قائمة مقام المفتى فى أكثر أحكامها، ومهما يكن من التغيير فى الاقتراح، فإنه لا يخرجه عن مخالفته الشرع، لأن شرط تولية المفتى مفقود فى قضاة الاستئناف». وتألم الخديو من صراحة الإمام وصلابته فى الحق، ومواجهته الخطأ بالإصلاح، فأصدر قرارًا بعزله عن منصبه فى ٥ من يونيو ١٨٩٩م دون اعتبار لهيبة المنصب واستهانة بمكانته الرفيعة، وعين فى مشيخة الأزهر الشيخ «عبدالرحمن قطب النواوى»، ابن عم الشيخ حسونة النواوى، وولى الشيخ «محمد عبده» منصب الإفتاء، وكان الشيخ حسونة النواوى يجمع بين المنصبين: منصب شيخ الأزهر ومنصب مفتى الديار المصرية.
أعيد الشيخ «حسونة» مرة أخرى إلى منصبه فى ٨ من فبراير ١٩٠٧م بعد أن ظل بعيدًا عنه نحو سبع سنوات، تولى خلالها مشيخة الأزهر أربعة من الأئمة العظام، واستكمل الشيخ ما كان قد بدأه من إصلاح الأزهر، وتطوير مناهجه الدراسية حتى يصل حاضره بماضيه التليد، فصدر القانون الجديد فى سنة ١٩٠٨م، بمقتضاه قسمت العلوم الدراسية إلى ثلاثة أقسام: علوم دينية وعلوم عربية وعلوم عقلية. وقسمت الدراسة أيضًا إلى ثلاث مراحل، كل مرحلة أربع سنوات، ولها شهادة تمنح فى نهايتها، فالأولى ابتدائية، والثانية الشهادة الثانوية، والثالثة الشهادة العالمية، وتعطى لحاملها حق التدريس بالجامع الأزهر، وتولى وظائف الإمامة والخطابة. وأضاف لهذا القانون الإصلاحى علومًا أخرى إلى جانب التى تدرس بالأزهر، شملت السيرة النبوية والإجراءات القضائية والتوثيقات الشرعية ونظام القضاء والإدارة والأوقاف والتربية وطرق التدريس والحساب والجبر والهندسة والجغرافيا وقواعد الصحة، وأحضر لتدريس علوم الرياضيات والجغرافيا والتاريخ بالأزهر مدرسين مهرة من المدارس الأميرية، كما أنشئ فى عهده الرواق العباسى بالجامع الأزهر. والحقيقة أن كثيرًا من العلوم الحديثة كانت تدرس قديمًا بالأزهر، ونبغ عدد من أعلامه فى هذه العلوم، لكنها توقفت فى عهود التخلف التى ألمت بالعالم الإسلامى، وقد تهيب رجال الأزهر فى هذه الفترة من هذه العلوم، لبعد عهدهم بها، وظنها أنها من علوم الإفرنج، وأنها ما دخلت الأزهر إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو التقليل من شأنها.
ويذكر أن الشيخ حسونة قام أثناء توليه مشيخة الأزهر بجمع مكتبات الأزهر، وكانت مبعثرة فى المساجد وأروقة الأزهر، وتحتوى على نوادر المخطوطات والكتب، وضمها فى مكتبة واحدة، وأعاد نظامها وترتيبها، فأنقذ بهذا العمل ضياع ثروة نادرة من المخطوطات النادرة، وكان الأساس للمكتبة الأزهرية العامرة، التى تعد أضخم مكتبة تضم المخطوطات فى مصر بعد دار الكتب المصرية. كذلك من مآثره موقفه فى إنصاف فضيلة الشيخ «عبدالرحمن قراعة»، والذى أصبح مُفتيًا للديار المصرية بعد ذلك، حيث أزال عنه محنة كانت قد ألمَّت به، فحصل بعدها الشيخ «قراعة» على العَالِمية وصار من كبار العلماء. من مؤلفاته: «سلم المسترشدين فى أحكام الفقه والدين».
ولما وجد الشيخ حسونة أن الأمور فى الأزهر لا تسير وفق ما كان يأمل من إصلاح وتطوير، وأن أهل الحكم وبعض مشايخ الأزهر يضعون العقبات فى طريق الإصلاح ـ سارع بتقديم استقالته فى ١٩٠٩م ولزم داره، حيث يلتقى بتلاميذه ومحبيه حتى توفى فى ١٨ مارس ١٩٢٥م.