جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الرامخ

جريدة الدستور

دوامة من الغبار تتشكل خلفنا، أقدامنا الصغيرة العارية تعارك وجه الأرض، فتعاقبنا باللهب الخارج من باطنها، حتى أشعة الشمس تتعامد على أجسادنا الهزيلة، فنتصبب عرقًا وكأنهما أبرمتا اتفاقًا ضدنا، فتثور الأرض فتردمنا.. تتملكنا الفرحة بما تمدنا من غبار، كنا نتخفى خلفه، فلا يرانا أحد، ندك أقدامنا أكثر.. تمدنا بكمية أكبر من الغبار.. نشكرها، غير عابئين بترابها الذى احتل وجوهنا المعروقة وملابسنا الكالحة الألوان. نقطع من أديمها ما تيسر لنا من حصوات نافرة نستخدمها أسلحة قنص، مهاجمون النخل الباسق نقذف قلبها الدافق، كانت النخلات ودودة معنا، تتلقى الضربات فتعطينا المزيد من الرامخ، محاولة إبعادنا عن باقى جسدها.. فنملأ جيوبنا، تصيبنا فرحة الفوز بالبشائر، لم يشغلنا ما يتوغل فى ملابسنا من نزف للرامخ المجتث لتوه من حضن أمه، متسربة دموعه الدامية ملونة ما نرتدى بلون أحمر، نعود مترنحين.. أقدامنا لا تعكر صفو الأرض وقد أبلغت قرص الشمس الذى أصبح حانيًا علينا باللون الباهت المائل للحمرة، وقد تصالحت لوقع أقدامنا المثقلة وأجسادنا المنهكة فحنت علينا. الأفواه تلتهم فى اشتهاء ما جنت، لا تعير انتباه للعصارات البيضاء التى لونت الشفاه، قد تنبئ أمهاتنا بما فعلنا، يتملكن الحذر من ردة أفعالهن وتسابق كلماتهن عن العذاب ومن الموت المنتظرة وتلك الحمى التى قد تصيبنا وتسكن أجسادنا وربما تاركة عاهة دائمة أو تفقدنا حاسة من الحواس.
٢ -
بعد أن يرحل الجميع يأتى متخفيًا حاملًا مقطفه الخوص، يجمع ما تبقى يملأه وفى سرية يعود كما جاء. فى الصباح يكون جالسًا فى أطراف سوق المدينة، يتهافت عليه الصغار يكيل إليهم ولا يحسن الكيل. يبتاع قطع الحلوى، الخبز الأبيض، أقراص الطعمية، الجبن الرومى ويعود، يجد الأطفال يلعبون فى حلقات متلاحمة، يجلس وحيدًا بعيدًا عنهم، لا يجد من يرحب بوجوده، يخرج من مقطفه ما حوى.. يتجمعون حوله، تتثبت الأنظار عليه، تصرخ الأفواه الجائعة مشتهية ما فى يديه، يتجمعون حوله فى استكانة، يراوغهم ويقسم عليهم القليل، يتشابكون.. الكل يريده فى مجموعته يلعب معهم، يتشاورن وفى النهاية يتركون له الاختيار، يشكل مجموعة جديدة منهم، يقودهم إلى ألعاب جديدة مبهرة لا يعلمون عنها شيئًا، يتعاركون.. يتنازعون.. يختفى.. يتركهم.. يذهبون إلى جمع الرامخ يصارعون الأرض.. يقذفون النخل، بعد رحليهم يجمع ما تركوه.