جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

جنة «المتوسط».. مشاهد من قبرص: جزيرة الصخب تنشغل بالحياة ولا تبالى بـ"العثمانلى"

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، هناك جزيرة لا تبالى بشىء على الإطلاق، الدول المحيطة بها تشتعل وهى هادئة ساكنة، أو هكذا تبدو.

فهى ليست هادئة أبدًا، بل صاخبة جدًا وثائرة إلى حد بعيد، لكن صخبها وثورتها للاستمتاع وليس للدمار. تستقبل الجزيرة زوارها بأذرع مفتوحة، لا تفرق بين البشر مهما كانت جنسياتهم أو دياناتهم أو ألوانهم أو أعراقهم. فالجميع هنا يقضون النهار على الشواطئ وهم يرقصون على أصوات الموسيقى التى تسمعها فى كل مكان، وفى المساء يحتفلون ويرقصون أيضًا.. هذه الجزيرة هى قبرص، التى تعلمك «حب الحياة».


«الخط الأخضر» يقسم العاصمة.. ومدفعية الأتراك دمرت المدن
استقلت قبرص عن بريطانيا عام ١٩٦٠، وتم تقسيمها بعد التدخل العسكرى التركى سنة ١٩٧٤ إلى جزأين، الأول ذو أغلبية سكانية يونانية فى الوسط والجنوب، والثانى ذو أغلبية سكانية تركية فى الشمال، وفى عام ١٩٨٣ أعلن قيام «جمهورية شمال قبرص التركية» التى لم يُعترف بها حتى اليوم.
العاصمة الرسمية وأكبر المدن نيقوسيا مقسمة بين اليونان وتركيا، تليها مدينة ليماسول ثانى أكبر مدينة، ثم لارنكا وبافوس، وتقعان فى الجزء اليونانى، بجانب مدينتى فاماجوستا، وكيرينيا، وتقعان فى الجزء التركى المحتل.
وتقع نيقوسيا فى منتصف الجزيرة تقريبًا، وهى مركز الحكومة والتجارة فى البلاد، وتسبب الاجتياح التركى فى تقسيمها، لتصبح بذلك العاصمة الوحيدة المقسمة عسكريًّا فى أوروبا، منذ سقوط حائط برلين، حيث يقسمها «الخط الأخضر»، وهو منطقة عازلة بإشراف الأمم المتحدة.
بأتوبيس من لارنكا يمكنك الذهاب إلى نيقوسيا، التى للوهلة الأولى سيصعب تمييزها: هل هى يونانية أم تركية؟، وأشهر ما بها هو «بيوك خان» الذى تم بناؤه فى العصر العثمانى، وكان يضم مسجدًا وساحة بها نافورة مياه تُستخدم للوضوء، وبعد خضوع المنطقة للاحتلال الإنجليزى تحول إلى سجن، أما الآن فقد أصبح الخان مزارًا سياحيًا وثقافيًا، وبشكل ما يحكى تاريخ المدينة الصاخب.
وتقع لارنكا فى الجنوب الشرقى، وبها مطار لارنكا، وتعتبر المرفأ التجارى الثانى فى الجزيرة ومقصدًا سياحيًّا مهمًّا، وبسبب موقعها المهم. فهى همزة الوصل بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية.
فيما تعتبر ليماسول المرفأ التجارى الأول والرئيسى، وهى مدينة كبيرة فى الجنوب، وتعد مقصدًا سياحيًا مهمًا، ومدينة أثرية وتاريخية من طراز خاص، تجمع بين الحب والسياسة، وتضم كوريون القديمة وقلعة ليماسول ومنتزه ليماسول وقلعة كولوسى وحديقة فاسورى و«ووترمانيا».
كما تضم عددًا كبيرًا من الفنادق الفاخرة والمطاعم والمقاهى ومحال بيع الهدايا ومراكز التسوق، وتعتبر آثار منطقتى ماثيوس وكوريون القديمة بها من أهم المزارات السياحية التى يعود تاريخها للقرن الـ١٢ قبل الميلاد، ويمكن للسائح مشاهدة أطلال المدينة القديمة بمسارحها العديدة ومبانيها التى تعود للعصر البيزنطى الرومانى، لتأخذه فى لحظات قليلة إلى التاريخ كأنه ركب «آلة زمن».
وهناك قلعة ليماسول التى أنشئت فى القرن العاشر أيام الحكم البيزنطى، ثم استخدمها الإنجليز كسجن، إلا أنها لها أهمية خاصة. فالملك ريتشارد قلب الأسد تزوج فى هذه القلعة من برينجاريا، ونصب فيها نفسه ملكًا على قبرص أيضًا، وأقام احتفالًا فى فنائها الخارجى.
أما بافوس فتقع فى الجنوب الغربى، وبها المطار الثانى فى الجزيرة، ومكان جذاب لصيد السمك، وتتمتع بموقع فريد بين جبال ترودس والساحل القبرصى على البحر المتوسط، وتضم العديد من المعالم الأثرية المهمة التى يعود تاريخ بعضها للقرن الرابع قبل الميلاد، مثل مقابر الملوك وشاطئ حجر روما وخليج كورال وقلعة بافوس والحديقة الأثرية وحديقة كاتو بافوس الأثرية، وهى من أروع مزارات السياحة فى قبرص، لضمها العديد من الآثار الرومانية القديمة التى تعود لعصور ما قبل التاريخ.
وتوجد فى بافوس صخرة أفروديت التى ذكرتها الأساطير القديمة، حيث ولدت عليها إلهة الحب والجمال أفروديت، ووصلت إلى الشاطئ داخل صَدفة كبيرة، وهى أحد أهم مراكز السياحة فى قبرص، وتم ضمها إلى التراث الإنسانى والثقافى لـ«اليونسكو»، واُختيرت «عاصمة الثقافة الأوروبية» لعام ٢٠١٧.
بشكل سهل جدًا، يمكنك أن تلمس الفرق بين الحكم اليونانى والحكم التركى. فمدينة فاماجوستا فى القسم التركى التى كانت قبل عام ١٩٧٤ مأوى الصناعة السياحية تحولت إلى مدينة فقيرة، وتصحرت منذ عام ١٩٧٤ بعد أن هجرها ساكنوها هربًا من القوات التركية.
وكذلك مدينتا كيرينيا على الساحل الشمالى، ومارفو التى تقع فى منطقة الزراعة فى ميزاوريا، واللتان يسكن بهما القبارصة الأتراك، والمستوطنون الأتراك، وذلك بعد أن أُجبر القبارصة اليونانيون فى عام ١٩٧٤ على إخلاء بيوتهم وممتلكاتهم والانتقال إلى القسم الجنوبى تحت تهديد السلاح ومدفعية الجيش التركى.



أيانابا نسخة من شرم الشيخ.. وأهالى لارنكا: «مدينتنا تشبه الإسكندرية بدرجة كبيرة»
وجهتى الأولى فى زيارة معالم ومدن قبرص كانت مدينة أيانابا التى تقع على أطراف الجزيرة على شكل مثلث تحيط به المياه من ٣ جوانب، وتعتبر المدينة السياحية الأولى فى قبرص، ويأتى إليها السياح من كل العالم.
بيوت المدينة بيضاء وصغيرة، وشوارعها ضيقة ومتعرجة وبها منحدرات كأنها جبلية، وتشبه كثيرًا مدينة شرم الشيخ، حتى إنه توجد بها منطقة تشعر فيها كأنك فى «خليج نعمة»، وفيها قضيت نحو يومين، حيث الكل يحب الحياة جدًا، هناك فقط الاستمتاع الذى لا يعرف الشبع.
قبرص بشكل عام بلد سياحى فقط، سياحى بامتياز، وحسب الإحصائيات الرسمية فإن الإقبال زاد على قبرص بعدما اشتعل الشرق الأوسط. فالسائح الأوروبى أو الروسى الذى كان يأتى للشرق الأوسط، أصبح الآن يفضل تلك الجزيرة.
فى أيانابا عليك أن تنسى الوقت وعقارب الساعة، المدينة السياحية تلك تستيقظ ٢٤ ساعة وتمنحك الترفيه طوال الوقت دون توقف. فى الصباح الشواطئ مكتظة، وفى المساء المقاهى والمطاعم تستقبل الزوار، ولهذا تعتبر أغلى نسبيًّا من باقى مدن الجزيرة.
أهم مناطق أيانابا منطقة «بلو لاجون»، وهى بحيرة زرقاء صافية محاطة بالصخور والكهوف، يمكنك مشاهدة قاع البحيرة من سطحها، ويمكنك استئجار قارب للتجول بين الكهوف.
أما خليج كونوس فبـ٥ يورو فقط يمكنك استئجار شمسية وشيزلونج وتجلس بين الصخور والمياه الزرقاء، وخلفك جبال قبرص وغاباتها.
وإذا كنت من محبى الصخور والكهوف بدرجة أكبر، فيمكنك أن تذهب لمنطقة «كاب جريكو»، وهى من أهم مناطق السياحة فى قبرص، وتنفرد بوجود مجموعة من سلاسل الكهوف.
ومن أيانابا توجهت إلى مدينة لارنكا التى تقع على الساحل الجنوبى لجزيرة قبرص، وتعد ثانى ميناء بها من حيث المساحة، وتوجد بها أعداد كبيرة من اليخوت الفارهة والبسيطة التى تقوم برحلات سياحية فى البحر الأبيض المتوسط، بينما قوارب الصيد قليلة وهامشية.
المدينة بسيطة جدًّا وغير مبهرة مثل أيانابا، لكنها دافئة ومريحة، ربما لأنها تشبه الإسكندرية أو لسبب آخر لا يمكن اكتشافه بسهولة.
فى مساء لارنكا، تشوش إرسال «google maps» ولم يعد يفرق بين اليمين واليسار، وكان الظهور الأخير الصحيح على مسافة ٥٠٠ متر من فندقى، ثم تشوش الطريق. يبدو أن ضيق الأزقة أصاب محرك البحث بالتخبط، فكانت فرصة جيدة للاستمتاع بجولة عشوائية فى هذه المدينة الصاخبة، وحدى فى ساعات الليل المتأخرة. بشكل ما أنا لا أريد العودة إلى الفندق، فليتشوش «جوجل» كما يحلو له.
لارنكا تذهب بك إلى عالم مميز، كل شىء فيه هادئ ومريح، البنايات قصيرة، طابقان أو ٣ على أقصى تقدير، إغريقية الطراز، غير فارهة وغير مبهرة وغير عظيمة، لكن تلامس قلبك وتجعلك سعيدًا. طلاء البنايات من الأبيض والأزرق، وتغطى شبابيكها الزهور الملونة، حتى بيوتها العتيقة ذات النوافذ المكسورة تجعلك تحنو عليها ولا تغضب منها، وبها لمحة من الجمال، الكراسى الخشبية أمام أبوابها، والموسيقى اليونانية فى كل مكان، ورائحة الطعام رائعة.
لارنكا إحدى مدن قبرص رائعة الجمال، رغم أنها ليست مدينة أثرية بدرجة كبيرة أو سياحية مثل أيانابا، لكن بها معادلة أخرى، وهو جمال الطبيعة مع الدفء، قال لى سائق التاكسى: «هى ليست عظيمة لكنها مريحة.. لا تجعلك تغضبين أبدًا، إذا احتجتِ أى شىء ستجدينه حولك، وإذا لم تجديه سيهب الجميع لمساعدتك».
تشبه كثيرًا مدينة الإسكندرية، ومثلما قالت لى «سوزانا» العاملة بالمطعم، التى وضعت المزيد من الجبن والبطاطس عندما عرفت أننى من الإسكندرية: «لارنكا هى نسخة أخرى من الإسكندرية، زوجى لديه أعمال فى الإسكندرية، ويذهب إلى هناك كل عدة أشهر، وأنا زرتها معه قبل سنوات، نحن لدينا العديد من القواسم المشتركة».


موسيقى ورقص شعبى.. رسم «جريجى» للحفاظ على الهوية.. وبحيرة ساحرة تمتلئ شتاءً وتتحول إلى ملح صيفًا
لاحظت وشمًا غريبًا مرسومًا على ذراع الشاب «نيكولاس» فسألته عنه، فقال: «هذه ثقافتى وتاريخى». سألته: «هل كل مواطنى قبرص يعتزون بتاريخهم وثقافتهم ويرسمون شعاراته على أجسامهم؟»، فرد: «الجميع هنا يعتز بهويته (الجريجية) هذا ما سيحمينا.. إذا ضاعت الهوية ضاع كل شىء».
لفت «نيكولاس» نظرى إلى الفكرة، وتذكرت بالفعل أننى دائمًا أقابل رسومات وجرافيتى وتماثيل للآلهة اليونانية والفلاسفة فى كل مكان أزوره، حتى الموسيقى أيضًا، فلا تسمع موسيقى «البوب» العالمية أبدًا، فقط الموسيقى اليونانية سواء الشعبية أو المعاصرة أو الكلاسيكية.
وتتأثر الموسيقى الشعبية فى قبرص بالموسيقى اليونانية، كما ظهر «الراب القبرصى»، وموسيقى «الروك القبرصى»، والقليل من موسيقى «البوب» و«الميتال» على الطريقة القبرصية، والجميع هنا يتقن رقصة «Syrtos»، الرقصة الشعبية الأكثر انتشارًا فى قبرص. فبدون مقدمات تجد مجموعة من الشباب والفتيات يبدأون الرقص فى وسط الشارع وجميعهم يحفظ الخطوات عن ظهر قلب.
المعارض واللوحات أيضًا لها مكان مهم فى قبرص. فتتمثل إحدى ميزات الفن القبرصى فى الاتجاه نحو الرسم التصويرى، ويوجد العديد من المؤسسات الفنية التى تدعم الفنون والرسم، وأبرزها مركز الفنون البلدية فى نيقوسيا، وهناك معارض فنية تابعة للبلدية فى جميع المدن الرئيسية، حضرت واحدًا منه فى أيانابا، وجدته مزدحمًا بالزوار، وحوله الأسواق والمطاعم ذات كثافة أقل فى عدد الحضور.
ورغم أنه فى العصر الحديث يتجه معظم الفنانين القبارصة إلى الدراسة فى لندن، لا تزال قبرص وفنها تحتفظ بهويتها القديمة، وهناك الكثير من الفنانين الذين يحرصون على التدرب فى مدارس الفنون فى اليونان والمؤسسات الفنية المحلية، مثل كلية قبرص للفنون وجامعة نيقوسيا ومعهد فريدريك للتكنولوجيا.
فى لارنكا أيضًا يمكن أن تلمس بها الطابع الدينى أكثر من غيرها، أصوات الكنائس بها مرتفعة، وتزدحم يوم الأحد، خاصة كنيسة «أجيوس لازاروس»، التى شُيدت فوق قبر القديس لازاروس فى القرن التاسع، وأعيد ترميمها فى القرن ١٧، وهى مثال رائع على عظمة العمارة البيزنطية القديمة، وعلى الرغم من تهدم قبابها الثلاث وبرج الجرس أيضًا، ما زال الحاجز الأيقونى فى موضعه، وهو مصنوع من الخشب المنحوت بدقة متناهية ومطلى بالذهب الخالص.
كما يوجد بها عدد آخر من المزارات التاريخية مثل متحف بيريديس وشاطئ فينيكوديس وقناطر كاماريس وقلعة لارنكا، وأيضًا بها عدد من المساجد الأثرية مثل مسجد لارنكا الكبير وبحيرة لارنكا المالحة، التى يطلق عليها العامة هناك «البحيرة المسحورة»، التى حكى لى حكايتها الشاب القبرصى «نيكولاس» قائلًا: «تلك البحيرة عبارة عن ٤ بحيرات تمتلئ فى فصل الشتاء بمياه الأمطار وتجتذب المئات من طيور الفلامنجو الشهيرة، وبحلول الصيف تجف تلك البحيرات مخلفة سطحًا أملس، هو طبقة من الملح بسمك ١٠ سم فى صورة رائعة الجمال، وهى بذلك جاذبة للسياحة سواء فى فصل الشتاء وموسم سقوط الأمطار ومشاهدة طائر الفلامنجو، أو فى فصل الصيف ومشاهدة انعكاس أشعة الشمس نهارًا على سطح البحيرة اللامع أو انعكاسات الأضواء ليلًا فى مشهد مبهر حقًا، وعند الغروب تنعكس أشعة الشمس على البحيرة ويصبح لونها أحمر مثل الدم». وتابع: «الأسرار هنا لا تنتهى.. هناك شجرة فى قبرص معروفة بالوفاء بالرغبات. تُزين هذه الشجرة عند مدخل سراديب الموتى المسيحية فى بافوس بمناديل وأشرطة. يعتقد الناس أن النساء المصابات بالعقم سينجبن أطفالًا، وسيعود الناس إلى أحبائهم عندما يرتبط شىء ما يخصهم بالشجرة».