جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

صراع الغاز.. يفك الألغاز



لم تضق الدنيا فى وجه ذلك المقاول الأجير، أو المستعمَل، بفتح الميم الثانية، لكى يجد مثالًا أو قرارًا يوضح به رؤيته لكيفية حكم الشعب لنفسه، إلا مثال أو قرار بيع «حقل غاز» لدولة أخرى أو مشاركتها فيه. والأرجح هو أنه كان يقوم بنقل رسالة من مستعمِليه، بكسر الميم الثانية. أو كان ذلك هو أول ما تبادر إلى ذهنه، بسبب نقاش قريب بينه وبينهم.
يدعم أحد الاحتمالين، أو كليهما، أن واحدة من حريم رجب طيب أردوغان، اسمها إسراء إلونوى، Esra Elenü، كتبت فى حسابها على «تويتر» أن كل شىء سيتوقف إذا قرر السيسى الحوار بشأن غاز شرق المتوسط. وما يقطع بأن هذا الكلام ليس عابرًا أو مجرد «هبد»، هو أن ياسين أقطاى، مستشار الرئيس التركى، قام بمشاركة، «ريتويت»، تلك التغريدة، ما يعنى إقراره هو ورئيسه بمحتواها. والمذكورة، تعمل بإحدى القنوات التليفزيونية الحكومية التركية، واعتاد المذكور مشاركة تغريدات من حسابها، الذى يتابعه أكثر من ١١٦ ألفًا.
الشك فى ذلك وارد وواجب. لكنك ستقطعه بكثير من اليقين، أو بقليل منه، لو عرفت أنه بالتزامن مع «ثورة الأرشيف» أو «ثورة الفئران» الفارة، انعقدت فى أنقرة، ندوة حول قبرص، قرأ الجالسون على منصتها رسالة وصلتهم من الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، حذر فيها «مَنْ يعتقدون أن ثروات جزيرة قبرص ومنطقة شرق المتوسط تابعة لهم وحدهم» بأن بلاده ستدافع بحزم عن حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك فى جزيرة قبرص، وأنها ستواصل تعاونها فى أعمال التنقيب عن النفط والغاز، مع ما توصف بـ«جمهورية شمال قبرص»، تلك الدولة المزعومة، التى لا تعترف بوجودها إلا تركيا!.
لا نكشف جديدًا لو قلنا إن التحولات العديدة، التى جرت وتجرى فى المنطقة، كان بين أهدافها أو محركاتها، محاولة السيطرة على منابع ومصادر الطاقة فى شرق المتوسط، بين ثلاث قوى رئيسية هى مصر وتركيا وإسرائيل. والإشارة هنا مهمة إلى ذلك الاجتماع الذى عقدته مصر واليونان وقبرص فى ٢٠١٤، والذى بدأت بعده محاولة تنظيم عمليات الاستثمار فى تلك الثروة، التى كانت بوصلة واضعى السياسات فى الدائرة الداخلية للرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، إدراكًا منهم لأهمية النفط والغاز فى استراتيجيتهم تجاه روسيا والصين والاتحاد الأوروبى.
وفق هذا التصور، يمكنك التعامل مع جهود الوساطة التى يبذلها ديفيد ساترفيلد، مساعد وزير الخارجية بالوكالة، بين الإسرائيليين واللبنانيين فى تسوية نزاع حدودى بحرى. وبالطبع، ليست صدفة أن يقع الاختيار على ساترفيلد ليكون سفير الولايات المتحدة فى تركيا. وأضف إلى ذلك، أن مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكى، حرص فى مارس الماضى، على زيارة تل أبيب لحضور توقيع اتفاق إسرائيلى يونانى قبرصى لإقامة خط أنابيب لتسهيل تصدير الغاز إلى أوروبا. فى إشارة متعمدة إلى دعم الولايات المتحدة لهذا المشروع.
الاتحاد الأوروبى، الولايات المتحدة، مصر، قبرص، اليونان، ودول أخرى تعارض أنشطة التنقيب التركية «غير القانونية» عن مصادر الطاقة شرق المتوسط. وفى مايو الماضى، قام الاتحاد بتحذير تركيا من عواقب أنشطتها فى التنقيب عن النفط والغاز قبالة السواحل القبرصية، التى وصفها بأنها غير قانونية وتعهد بـ«الرد بشكل مناسب». ومنتصف يونيو، دعا الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، تركيا إلى التوقف عن تلك الأنشطة، وجددت دول الاتحاد الـ٢٨ تأكيدها على دعمها لقبرص فى النزاع. وهناك تحذيرات شبيهة أطلقتها الخارجية الأمريكية.
مع ذلك، أرسلت تركيا ٤ سفن بحث وتنقيب عن النفط والغاز فى المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص، ولم تردعها عقوبات الاتحاد الأوروبى «الرمزية» فى مجال النقل الجوى، وتخفيض المساعدات المالية فى إطار مفاوضاتها لنيل عضويته. بل أعلن أردوغان، مرارًا، أن العقوبات المفروضة والتهديد بأخرى لن ترهب بلاده، «ولن يدفعها إلى التراجع عن الخطوات التى تقدم عليها، بل على العكس، ستزيد من إصرارها وتصميمها على المضى قُدمًا لتحقيق أهدافها».
تركيا كانت تحلم بالسيطرة على إنتاج الغاز بمنطقة شرق المتوسط وتصديره إلى أوروبا عبر أراضيها. ولهذا السبب أرادت، أيضًا، بمساعدة قطر، أن تستثمر شواطئ غزة، عبر تحريك حركة «حماس» لمنع التوصل إلى تسوية فى القطاع. إلا أن تلك الأحلام تبخرت وباءت جهودها ومؤامراتها بالفشل. بينما نجحت مصر فى اقتناص تلك المكانة المركزية، وتمكنت من الإمساك بمفاتيح مستقبل غاز المتوسط، وفرضت اسمها على خريطة الطاقة الدولية.
لم تنجح مصر فى ذلك بمؤامرات أو بضربات تحت الحزام، وإنما انطلاقًا من موقعها الاستراتيجى، وتأسيسًا على جهودها طوال السنوات الخمس الماضية، فى تطوير هذا القطاع، واستنادًا إلى قواتها المسلحة، القادرة على قطع أيادى ورقاب كل من يحاولون الاقتراب من ثروات شعبها ومقدراته.