جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

السلطة المطلقة


السلطة المطلقة لها بريق، من الصعب مقاومته، وربما تجعل الشخص المستأثر بها يفقد إنسانيته وكل عواطفه فى سبيلها، وقد ظل الحديث عن تأثير تلك السلطة فى حيز الوصف الظاهرى، الذى تناوله الفلاسفة والشعراء، دون أن يتطرق إلى التجارب العملية فى المعمل، إلى أن قام عالم النفس، فيليب زيمباردو، بها عام ١٩٧١ بإجراء تجربة تسمى «سجن ستانفورد» وهى تجربة تهدف إلى فهم ما يحدث إذا أُعطى الإنسان السُلطة المطلقة.
قام عالم النفس باختيار ٢٤ متطوعًا، وكلهم طلاب فى الجامعة، وتم تقسيم المتطوعين إلى مجموعتين متساويتين، ١٢ منهم مساجين، والآخرون حراس، ليتم وضعهم فى قبو جامعة ستانفورد، الذى جُهز ليكون محاكاة حقيقية لسجن واقعى.
قبل بداية التجربة بيوم واحد، عقد فيليب زيمباردو اجتماعًا بين الحراس والمشرفين على التجربة، وخرج الحراس من الاجتماع فقط بتوجيه ينص على عدم استخدام عنف جسدى مهما كان الأمر، وأن يقوموا بإدارة السجن بطريقة طبيعية، كما يحلو لهم كأنهم فى سجن حقيقى.
فى بداية التجربة، ذهب الحراس إلى بيوت الطلبة المساجين، أى هؤلاء الطلبة الذين وقع عليهم الاختيار لتمثيل دور المساجين، وتم أخذهم وهم مقيدون بالأصفاد والقيود الحديدية، لإضفاء مشهد الواقعية على التجربة، ومن هنا شعر الحراس بأن لديهم سلطة مطلقة، وتذكروا أن القاعدة الوحيدة فى اللعبة هى: أن لا يتعين عليهم التقيد بقوانين أو لوائح، تحد من سلطاتهم. يعنى أن يتصرفوا وكأنهم بلا قوانين.
ومن هنا بدأ الحراس يتقمصون أدوارهم بطريقة طبيعية، فى التحول الجذرى إلى أشخاص أكثر قسوة وعنفًا، لدرجة تعذيب وضرب زملائهم، رغم أنهم عُرفوا بهدوئهم والتزامهم.
وفى اليوم الثانى أجرى المساجين عصيانًا بسبب المعاملة التى يلقونها من الحراس، وتم فض هذا العصيان، وتجمع السجانون، لفض هذا الاعتصام، وهناك من عمل لساعات إضافية حتى يقضى على هذا العصيان، وتطور الأمر حتى أصبح أكثر قسوة من ناحية الحراس، ومنعوا المساجين من دخول الحمام، وأجبروا بعض المساجين على تنظيف المرحاض بيديهم، وهناك من جاع ولم يحصل على الطعام كنوع من العقاب. تحولت التجربة ببساطة من محاكاة إلى حياة سجن حقيقية، تقترب من الحالة التى يوجد بها المساجين فى سجن حقيقى.
سرعان ما خرجت التجربة عن السيطرة. وعانى السجناء من ممارسات سادية ومهينة على أيدى الحراس، فقد بدت على عدد منهم علامات الاضطراب العاطفى. وتحول السجن إلى مكان منفر وغير صحى. وصار الدخول إلى الحمامات امتيازًا، قد يحرم منه السجين، وكثيرًا ما حصل ذلك. وقد أجبر بعض السجناء على تنظيف المراحيض بأيديهم المجردة.
وتم إخراج الفرش والوسائد من زنزانة الحبس الانفرادى الذى وضع فيه قادة العصيان، وأجبر السجناء على النوم عراة على البلاط. أما الطعام فكثيرًا ما حرم السجناء منه كوسيلة للعقاب. لقد فُرض العُرى على السجناء وتعرضوا للتحرش الجنسى والإذلال من قبل السجانين. بدأت تظهر على المساجين أعراض الاكتئاب، وكان بعض المساجين يعانون من نوبات بكاء طويلة وعميقة، وهناك من استسلم لنوبات البكاء، وهناك من بدأ يعانى من توتر حاد، وهو ما جعل المشرف على التجربة يطلب إيقافها فورًا، بعد أن ظهرت على المساجين والسجانين أيضًا أعراضها، والتى يصعب تداركها أو علاجها. وبالفعل تم إيقافها بعد ٦ أيام من بدايتها، رغم أن مدة التجربة كان من المفترض أنها أسبوعان.
انتهت التجربة بنتائج كارثية لم تكن متوقعة، ولكن كانت أهدافها كثيرة، حيث تم الأخذ بها فى مراجع علم النفس، والأهم من ذلك وما نعانى منه كشعوب عربية هو أن: السلطة المطلقة تُغير من ملامح الإنسان وتُخرج أسوأ ما فى النفس البشرية.