جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إنهم يهدمون الآثار التاريخية.. أليس كذلك؟


زحفت الجرافات يوم الأربعاء ١٢ فبراير وقوضت بأطرافها الحديدية مبنى «وكالة العنبريين» فى شارع المعز لدين الله الفاطمى، تحت إشراف اللواء محمد أيمن عبدالتواب، نائب محافظ القاهرة، الذى تابع تنفيذ قرار الهدم. شارع المعز يعد جزءًا من التراث العالمى وفق منظمة اليونسكو ومتحفًا مفتوحًا تحت السماء. هدمته الجرافات وأحالت قطعة من تاريخ مصر إلى غبار وأتربة.
يعود بناء المبنى لأكثر من تسعمائة عام تقريبا، وضعت اللبنة الأولى فيه عام ١٢٧٣ مع استكمال الفاطميين تأسيس مدينتهم، ثم تحول إلى وكالة لصناعة العطور فاكتسب اسمه «وكالة العنبريين».
حينما بدأ المبنى يتصدع عام ٢٠٠٥ خف تجار شارع المعز إلى المسئولين جميعًا يرجون ترميمه وإنقاذه، لكن وزارة الآثار رفضت أن تتحرك بدعوى أن وكالة العنبريين ليست مدرجة ضمن الآثار فى دفاترها!، ولم يختلف رد وزارة الثقافة كثيرًا، إذ قالت إنها ليست الجهة المختصة بالآثار!، ثم حل الدور على محافظة القاهرة فحركت الجرافات لتهدم وتقوض وتبدد عطر التاريخ الذى فاح نحو ألف عام. بررت المحافظة الجريمة بأن المبنى «غير مسجل كأثر تاريخى»!، وإذا كان التسجيل على الورق من عدمه سببًا للهدم، فإن الأهرامات أيضا غير مسجلة كأثر، فهل نقوم بهدمها؟!. تقول المحافظة أيضا إن المبنى كان متصدعًا. نعم، وفى مثل هذه الحال ينبغى ترميم المبنى وليس هدمه. من ناحيته صرح المستشار محمد سمير، المتحدث باسم النيابة الإدارية، بأن لجنة من كبار الأثريين كانت قد أقرت بأن مواصفات المبانى الأثرية متوفرة بوكالة العنبريين، وأنه تم رفع توصية إلى وزارة الآثار لاتخاذ إجراءات تسجيل المكان كأثر، لكن الوزارة لم تحرك ساكنًا. وزارة الآثار دفعت عن نفسها تهمة الهدم بالقول إن المحافظة هى التى هدمت، لكنها- أى الوزارة- لا تستطيع أن تدفع تهمة إهمال تسجيل عقار أثرى على مدى سنوات طوال، كما لا تستطيع وزارة الثقافة الهائمة بين بالونات المهرجانات وموسيقاها أن تبرئ نفسها من الإهمال والجهل الفاضح. فى كل الأحوال فقد استثمرت محافظة القاهرة الجهل والبلادة فهدمت جزءًا من التاريخ فى وجود المحافظ اللواء خالد عبدالعال، وهو المحافظ ذاته الذى سأله الرئيس السيسى علنًا فى ديسمبر العام الماضى: «تعرف إيراداتك قد إيه يا سيادة المحافظ؟»، فلزم الصمت لأنه لا يدرى!، ثم سأله الرئيس: «طيب إنت اتعمل لك كام كوبرى فى الأربع سنين اللى فاتوا؟»، فلزم الصمت ثانية!، وتأكد بذلك أنه «غير محافظ» على القاهرة التى لا يدرى شيئًا عنها، ثم يمضى المحافظ قدمًا إلى الأمام ليهدم ما لا يدرى ما هو!، يجعلنا كل ذلك نتساءل بالمرة: ما إنجازات اللواء خالد عبدالعال فيما يخص القاهرة التى ما زالت تعانى من كل أمراضها المزمنة: القمامة والزحام والتلوث وفوضى المرور والعشوائيات؟.
جدير بالذكر أن وكالة العنبريين ليست أول الآثار التى تقوضها الجرافات، ففى القاهرة التى تضم ١١٦٣ مبنى أثريًا تم هدم «بيت المهندس» بشارع سوق السلاح فى ديسمبر ٢٠١٤، وهدم جزئى لفندق الكونتنينتال، الذى شهد توافد ملوك وملكات أوروبا خلال افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٦، وهدم سينما ريفولى، كما هدمت فى المعادى ١٤ فيلا فى السنوات الأخيرة علاوة على حصول أربعين فيلا على تراخيص هدم لإقامة أبراج سكنية. وهدم فى الإسكندرية الكثير من المبانى، وما بين ٢٠٠٧ حتى ٢٠١٤ تم هدم ٣٦ مبنى أثريا. وفى بورسعيد هدم نحو مائة عقار تراثى. وهم إذا لم يهدموا المبانى الأثرية فإنهم يؤجرونها للأثرياء كما حدث بتأجير معبد الكرنك لحفل عرس أكتوبر العام الماضى!، أو يتم تهريب الآثار بآلاف القطع!، وهو ما قام به بطرس رءوف غالى شقيق يوسف بطرس غالى وزير المالية الأسبق فى عهد حسنى مبارك، وقد ألقى القبض على بطرس بتهمة تهريب نحو ثلاثين ألف قطعة أثرية إلى إيطاليا فى حقائب دبلوماسية، والعجيب أن إيطاليا هى التى كشفت عملية التهريب فى ميناء مانولى وليس مصر.
هذه الصورة المحزنة هى التى دعت سمير غريب، الرئيس السابق للجهاز القومى للتنسيق الحضارى للتصريح فى أكتوبر ٢٠١٨ بأن مصر فقدت ٧٥٪‏ من المبانى التراثية خلال ٣ سنوات من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤. السيد المحافظ الذى لا يعرف «إيرادات» المحافظة، ولا كم عدد المنشآت الحديثة بها، لا يدرى أيضا أن مبنى عمره قرابة الألف عام هو أثر تاريخى. لقد أمسى من الضرورى إنقاذ التاريخ، ذلك لأننا سنعجز عن التقدم إلى المستقبل أو التخطيط له من دون ذاكرتنا وتاريخنا. صرنا فى أمس الحاجة إلى العقل فى مواجهة الجرافات.