جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

وارسو.. تدليس وتطبيع


ما كنا سنعود إلى «مؤتمر وارسو» الذى مات وشبع موتًا، لولا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فعل ما يستحق الالتفات ويستوجب العودة، حيث قام بتجريس ثلاثة وزراء خارجية عرب، وأدلى بتصريحات أساء بها إلى بولندا، واتهم شعبها بمشاركة النازيين فى الجرائم التى ارتكبوها خلال الحرب العالمية الثانية، التى مات فيها نحو ثلاثة ملايين بولندى!.
مكتب نتنياهو قام بتسريب جزء من حلقة نقاشية مغلقة على هامش المؤتمر، تحدث فيها وزراء خارجية ثلاث دول عربية خليجية، بما يوحى أنهم يدافعون عن إسرائيل ويهاجمون إيران. وبعد أقل من ٣٠ دقيقة من تداول الفيديو، قام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلى بحذفه من قناته على يوتيوب. ومن مهازل القدر وسخرياته أن نرى تسيبى ليفنى، وزيرة الخارجية سابقًا، زعيمة حزب «هتنوعا» حاليًا، تنتقد نتنياهو وتتهمه بانتهاك البروتوكولات المتبعة، لتحقيق مكاسب فى الانتخابات المقرر إجراؤها فى ٩ أبريل المقبل.
ليفنى قالت إن نتنياهو يجازف بالعلاقات الإسرائيلية مع دول عربية من أجل مكاسب سياسية، موضحة أن «العلاقات بين الأمم تقوم على الثقة بين القادة. وبالتالى فإن تصوير وتسريب (نتنياهو) لأقوال قيلت فى غرفة مغلقة، من أجل مصالح انتخابية محلية، هو أمر غير مقبول».
ليفنى أضافت: «لسنوات عديدة، أجريت اتصالات مع قادة عرب لا نتبادل معهم علاقات دبلوماسية، ولم يحدث أبدًا أن نشرتُ أو خرج إلى العلن شىء عن تلك الاجتماعات».
ورغم وضاعة أو عبثية ما فعله رئيس الوزراء الإسرائيلى، فإنه لم يصدر بيان يحمل توضيحًا أو تفسيرًا أو استنكارًا عن وزارات الخارجية فى الدول الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين. بينما قامت الخارجية البولندية، باستدعاء أنا آزارى، سفيرة تل أبيب لدى وارسو، للتوبيخ على خلفية تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلى اتهم فيها البولنديين بمشاركة النازيين جرائمهم ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. كما كتب، الرئيس البولندى، أندريه دودا، فى حسابه على تويتر: «إذا صحت تصريحات نتنياهو التى تداولتها وسائل الإعلام، فنحن على استعداد لاستضافة اجتماع رؤساء مجموعة فيشيجراد، بدلًا من إسرائيل التى لم تعد مكانًا جيدًا للقاء». معنى التغريدة الواضح هو التهديد بإلغاء قمة رؤساء بولندا، تشيكيا، سلوفاكيا، والمجر، التى من المقرر أن تنعقد، الأسبوع المقبل، فى القدس المحتلة.
باستدعاء الخارجية البولندية، سفيرة تل أبيب، مع تغريدة الرئيس البولندى، زعمت الحكومة الإسرائيلية أن جريدة «جيروز اليم بوست» قامت بتحريف تصريحات نتنياهو حول القضية التى وصفتها بأنها «حساسة للغاية». وقال بيان أصدره مكتب نتنياهو، الجمعة، إن رئيس الوزراء الإسرائيلى قال فى وارسو، إن «بولنديين تعاونوا مع النازيين»، وهى عبارة توحى بأن بعض البولنديين خلال الاحتلال الألمانى شاركوا فى قتل اليهود. بينما ذكرت الجريدة الإسرائيلية أنه قال «البولنديين»، ما يعنى أنه اتهم الأمة البولندية بأكملها.
توضيحًا للصورة، نشير إلى أن الشعب البولندى دفع ثمنًا فادحًا للحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، كان (ولا يزال) هناك إصرار عجيب من الإسرائيليين والأمريكيين على تحميل البولنديين مسئولية المعسكرات التى أدارتها ألمانيا النازية بعد غزو بولندا سنة ١٩٣٩، واستخدموا، تحقيقًا لهذا الهدف، عددًا ممن يوصفون بالمثقفين البولنديين، ليشككوا فى الرواية الوطنية التى تقول إن بولندا كانت ضحية فقط. وعليه، أصدر البرلمان البولندى، قانونًا جديدًا، فى ٦ فبراير الماضى، يعاقب بالسجن ثلاث سنوات «كل من يتهم علنًا الأمة البولندية، أو الدولة البولندية، بأنها مسئولة أو متواطئة فى الجرائم النازية التى ارتكبها الرايخ الألمانى الثالث».
هذا القانون أشعل خلافًا دبلوماسيًا بين الإسرائيليين وحكومة «وارسو»، وهاجمه رئيس الوزراء الإسرائيلى وزعم أنه محاولة لتغيير التاريخ وإنكار المحرقة. كما طالبت وزارة الخارجية الأمريكية بولندا بإعادة النظر فى مشروع القانون، وأعربت عن قلقها من عواقبه على العلاقات بين وارسو وواشنطن وتل أبيب. واستجابة للهجوم أو رضوخًا للتهديد الأمريكى الإسرائيلى، قرر الرئيس البولندى، فورًا، إحالة القانون إلى المحكمة الدستورية، التى أصدرت حكمها بتعليق العمل بالقانون، وفى ٢٧ يونيو الماضى، قامت الحكومة البولندية بتعديل القانون، ووصفت تلك الخطوة بأنها عملية «تصحيح». وبمنتهى السرعة، وافق البرلمان على التعديل.
بهذا الشكل، وبعد أن كان القانون الهادف إلى الحفاظ على «سمعة بولندا»، يعاقب بالسجن لمدة ثلاث سنوات كل من يدّعى أن بلاده تواطأت أو تعاونت أو اشتركت مع الألمان فى جرائم ضد اليهود- تحولت الجريمة إلى مخالفة أو جنحة، وتم إلغاء عقوبة السجن!.