جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إلا شيخ الأزهر


منذ عدة أشهر عاهدت نفسي على ألا أكتب شيئا عن شيخ الأزهر وفتوحاته التجديدية، وكنت قد عزمت على أن أكتب الشكل الكهنوتي لمن نُطلق عليهم "علماء الأزهر" سواء وهم يتسربلون بزيهم الديني، أو وهم يحولون أنفسهم إلى رجال دين، ويحولون مؤسستهم إلى مؤسسة دينية مقدسة لا يجوز المساس بها، ثم كان أن ناقشت نفسي، هل صحيح أن شيخ الأزهر رجل مقدس لا يأتيه الباطل أبدا ولا يقترب من حياضه؟ وهل هو بعيد عن الهوى الإخواني أم أنه يعيش في قلب أفكارهم؟ وقد أقلقتني تلك المظاهرات التي خرجت من بلد الشيخ عقب صلاة الجمعة الماضية تؤيده وتحذر من المساس به وترفع من أجل ذلك لافتات التأييد، وارتفعت الصيحات بعبارات إلا شيخ الأزهر.
نعم إلا شيخ الأزهر، فذات يوم أمسك الشيخ الجليل قلمه وكتب عدة مقالات للرد على المشروع الفكري للدكتور حسن حنفي ورؤيته للتراث، ثم رأى الشيخ أن مقالاته المبدعة كانت عميقة ومبهرة، فجمعها في كتيب صغير ونشرها كملحق لمجلة الأزهر منذ أكثر من عامين، فبها ونعمت، وجزاه الله خيرا على تصديه للإرهاب والإرهابيين، ودفاعه عن العلم والاستنارة، ولم ينس شيخنا الجليل أحمد الطيب إمام الأمة ومرشدها أن يشيد في مقالاته هذه بأستاذه سيد قطب الذي تأثر به وبأفكاره، وقد امتدح شيخ الأزهر الجليل سيد قطب وجعله شهيدا وعالما مدافعا عن الإسلام ضد هجمات الشيوعيين، هذا على أساس أن قطب واحد من عظماء مفكري مصر الذين صمدوا في مواجهة الفكر التغريبي الوافد من شرق ومن غرب، وأنه في دفاعه عن الإسلام بيَّن للتائهين من القراء والشباب مواطن الضعف والتهافت في هذه المذاهب السياسية والاقتصادية من اشتراكية ورأسمالية ومدنية وليبرالية، وكيف أنها "مذاهب هدامة" ولكن العجب أخذ بي عندما علمت أن شيخنا الجليل حصل على الدكتوراه من إحدى جامعات الغرب صاحب المذاهب الهدامة، وانه حصل عليها في الفلسفة الإسلامية، وأن الذي كان يشرف على رسالته أحد كبار المستشرقين الفرنسيين، فحزنت لأن قطب لم يستطع أن يحمي شيخ الأزهر من الفكر الاستشراقي التخريبي.
ولا أخفيكم سرا أنني أشفقت على واحد من الشباب الذين قرأوا لسيد قطب وتأثروا بمدرسته الفكرية واقتنعوا بفضله على الإسلام بشهادة شيخ الأزهر الجليل، اشفقت عليه حينما أمسك قنبلته، ووضع مسدسه في جرابه، واقترب من كمين للشرطة فوضع ابتسامة على وجهه كواحد من المواطنين الودعاء الطيبين الذين من فرط طيبتهم يقرأون ما يكتبه شيخ الأزهر ويثقون في تقريظه لشيوخه وأساتذته، ثم ازداد المواطن اقترابا من الكمين، فابتسم له أحد الجنود، ولمَ لا؟ فهذا مواطن مصري اكتوى في ظنه بنيران الإرهاب، وبغتة أخرج المواطن قنبلته وألقاها على الكمين، فانتشرت أشلاء الجندي المصري في المكان وفر الإرهابي وهو يطلق الرصاص من مسدسه على من نجا من كمين الشرطة.
نعم إلا شيخ الأزهر، فقد أمسك الشيخ الجليل قلمه وهم بالكتابة ثم طرأ له طارىء، فنظر إلى القلم قليلا ثم نحاه جانبا واستغرق في أفكاره، الآن ينبغي أن يصبح بحق رائدا من رواد الاستنارة، لا ينبغي له أن يخاف من أحد، أو يجفل من سطوة أحد، فهو الشيخ، وهو الإمام، وسيكتب عنه التاريخ، كلنا رجالك أيها الشيخ فَقُدنا وكن إمامنا في قافلة الاستنارة والتجديد، عاد الشيخ إلى قلمه وقدح زناد فكره ثم كتب:"ما كتبه الأستاذ الشهيد سيد قطب من كتب يصور فيها عدالة الإسلام تقف دونها الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية حسرى كليلة الطرف" كل الأنظمة تقف حسرى كليلة الطرف، مُتعبة متقطعة الأطراف أمام ما شرحه لنا سيد قطب، يا لعظمة استنارتك يا شيخنا الجليل.
أمسك إرهابيٌ من الذين قرأوا لسيد قطب وتأثروا بأفكاره بعض المتفجرات، وأخذ يرصها بمهارة فائقة وهو وبعض رفاقه من الإخوان الإرهابيين في شاحنة نقل مهيأة لنقل الماء في الصحراء، انتهوا من عملهم، فهم اليوم سيشنون عملية تدميرية يطبقون فيها دروس سيد قطب في ضرورة مواجهة المجتمع الجاهلي وتدميره عن آخره، فهذا المجتمع يحكم بغير ما أنزل الله، ويتحاكم إلى قوانين وضعية تُغَلِّب الرأسمالية البغيضة التي يكرهها شيخ الأزهر، وترفع راية الليبرالية والمدنية التي تتلمذ عليها رموز مصر مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وغيرهم، فهكذا سمع الإرهابيون من وكيل شيخ الأزهر السابق عباس شومان، اليوم سيتم تدمير جنود فرعون وهامان، فقد تحدث عنهم سيد قطب وعن وجوب قتلهم جميعا فهم سواء، دارت هذه الأفكار في عقل أحد أفراد الركب وهو يقود قافلته الإرهابية، وحين اتجهوا إلى مقر إحدى الوحدات العسكرية في شمال سيناء قام أحدهم بوضع حزام ناسف حول خاصرته ثم اقتحم بشاحنة المتفجرات المعسكر، وفجَّر نفسه في ذات الوقت الذي انفجرت فيه الشاحنة، فوقع العشرات من جنودنا شهداء.
إلا شيخ الأزهر فقد أمسك قلمه وكتب منتقدا الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فهو الذي هاجم الإخوان وحبسهم ثم انتصر للمذهب الاشتراكي الذي تحولت إليه مصر في الفترة من 1954 إلى1970 قائلًا إنه و"إن كان مذهبًا اقتصاديًا بحتًا في تطبيقاته المالية إلا أنه مذهب ذو جذور فلسفية وأيدلوجية، وله في بلاد المنبع والنشأة موقف معلن من الدين" ثم نعى على تلك الفترة كاتبا:"هكذا عشنا نحن طلاب الأزهر في هذه الحقبة، تهب علينا الرياح الثقافية العاتية من شرق أوروبا وغربها، وكنا بين طريقين: إما فتح النوافذ لهذه الرياح ومعاناة الاغتراب، وإما الانغلاق في مقررات التراث ومعاناة الاغتراب كذلك، ولم ينقذنا من هذا الصراع إلا هذه النخبة من عظماء مفكري مصر، الذين صمدوا لهذا الفكر الوافد من شرق وغرب، وكشفوا عن كثير من عوراته ونقائصه ونقائضه أيضًا، وبينوا للتائهين من القراء والشباب مواطن الضعف والتهافت في هذا المذاهب، وكيف أنها مذاهب هدامة" وهكذا قيضَّ الله لشيخ الأزهر أن يعيش منكبا على كتب التراث يلوذ بها من هجمات الغرب الفكرية، ثم أنقذه الله من فلسفات الغرب العاتية حينما وقفت نخبة من العلماء تصد عنا غوائل الغرب وعلومه وثقافاته.
أمسك إرهابيٌ قنبلة سهر الليل على صناعتها، إنها قنبلة محلية الصنع، قد لا تحدث أثرا كبيرا ولكنه اعتنى بحشوها بكل ما يستطيع من متفجرات لكي يجعلها عظيمة التأثير، الآن ينبغي أن يضع هذه القنبلة أمام كنيسة للصليبيين: هكذا قال لنفسه، ثم استرسل في أفكاره لكي يحفز نفسه: (أنا لا أقتل إلا من أجل الله سبحانه وتعالى، فقد التحقت بالأزهر الشريف لكي أتلقى العلم على أصوله، وأنا الآن في السنة الجامعية الأولى في كلية من كليات الشريعة، أذكر أنني في العام الفائت قرأت في كتاب من المقررات الدراسية أنني يجب أن أكره النصارى وأحاربهم، وأنني يجب أن اقتلهم إن لم يقبلوا الإسلام، هكذا أجمعت كتب التراث التي تم تدريسها لنا في الأزهر والتي يشيد بها الشيخ الإمام دائما، بل إنه كان يلوذ بها حماية له من ثقافات الغرب الكافر، ثم كان أن قرأت شرح العلماء في كتب التراث لحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فوجدت أن الإجماع على القتل والاستيلاء على المال، وفي الحصة بفصلي الدراسي حاول أحد المدرسين أن يجعل للحديث وجها مختلفا فقال: إن الأمر هنا بالقتال لا بالقتل! ولكن دخل بعده مدرس آخر وقال إن ما قاله الأول غير صحيح، إنما أمرنا الرسول بالقتل، فالقتال يؤدي إلى القتل، والدليل على ذلك قوله في آخر الحديث:"عصموا مني دماءهم وأموالهم" فكيف لا يكون الأمر هنا بالقتل، استحسنت قول هذا المدرس، وكان من فضل الله عليَّ أن التحقت بجماعة الإخوان، وأنا الآن في طريقي لوضع القنبلة أمام كنيسة عُباد الصليب، فهم لا يعبدون الله، سأقتلهم وأمزقهم إربا، ولن يشفي غليلي إلا رؤيتهم أشلاء) وضع الإرهابي قنبلته ثم قام بتفجيرها عن بعد وهو آمن على نفسه، وسقط كل من طالته المتفجرات شهيدا.
إلبا شيخ الأزهر فحينما جاء أول مايو من عام 2011 جلس الشيخ الجليل في مكتبه ليستقبل محمد بديع مرشد الإخوان، وأخذ شيخنا يطنب في مدح الإخوان ويقرر أن نصف الإخوان أزهريون، وأن الإخوان معتدلون، وأن هناك تعاونا مشتركا بين الأزهر والإخوان، وأكد على أن الحوار دار حول أسس الشراكة بين الإخوان والأزهر، ومن جانبه أخذ مرشد الإخوان محمد بديع يمتدح شيخ الأزهر، وبعد ثلاثة أعوام قال شيخ الأزهر أنه لا يوجد إخوان في الأزهر، ويبدو أن فضيلته وقع فيما يقع فيه باقي البشر من السهو والنسيان، فقد فات الشيخ الجليل أنه وضع في هيئة كبار العلماء أكثر من عشر علماء ينتمون للإخوان وأنه جعل من بينهم محمد عمارة الإخواني المتطرف، ثم جعله عضوا في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
إلا شيخ الأزهر، فقد جاء يوم فض اعتصام رابعة المسلح الذي أقلق مصر كلها، فأمسك الشيخ الجليل قلمه وكتب بيانا استنكر فيه فض الاعتصام، وطالب الأطراف.. الدولة... وعصابة الإخوان الإرهابية.. بضبط النفس والاستجابة لجهود المصالحة، واستنكر سيادته قتل الأبرياء وإسالة الدماء الذكية، وأنكر وقلمه يرتعش من الخوف علمه بإجراءات فض اعتصام رابعة وطالب الجميع بعدم إقحام الأزهر في الصراع السياسي، إذ وفق ظنه المستتر وراء عبارات البيان أن ما كان يحدث في مصر هو مجرد صراع سياسي وليس ثورة شعب.
نعم إلا شيخ الأزهر فقد ظهر شيخنا الجليل على إحدى الشاشات العربية العام الماضي ليقرر أن الإخوان لا خطر منهم على الأزهر وأن أفكارهم الدينية مثل أفكار الأزهر، يا لعظمة أفكارك يا شيخنا الجليل، كم أنت مستنير يا شيخ