جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

"الأنيميشن".. سينما الأرباح المضمونة التى هجرها الإنتاج المصرى

بكار
بكار

- أفلام «الكارتون» ظهرت فى مصر عام 1937 بعد سنوات قليلة من أول ظهور لـ«ميكى ماوس»

تشهد السينما العالمية سنويًا إنتاج العشرات من أفلام التحريك أو «الأنيميشن»، واللافت أنها جميعًا دائمًا ما تتصدر الإيرادات، وتحترف تحطيم الأرقام القياسية، ويكفى أن نعرف أن أرباح شركة «والت ديزنى» فى عام ٢٠١٧ قد تجاوزت ٥٥ مليار دولار، وهى الشركة التى سبقت أول إنتاج تحريك سينمائى مصرى بسنوات معدودة، ورغم ذلك ما زالت السينما المصرية بعيدة كل البُعد عن هذا النوع من الإنتاج، وما زال محترفو «التحريك» فى مصر غرباء عن قاعات الفن السابع، يحلمون بإنتاج مضمون الأرباح، سهل الإيرادات، ولكن دون أن يجدوا من يتحمس لتمويل هذا الفن بعيدًا عن سطوة النجوم، وتحت مزاعم طول وقت الإنتاج وصعوبته وندرة الكوادر المؤهلة.

أين مصر من خريطة تلك الصناعة مضمونة الأرباح؟ سؤال لا بد من طرحه، والبحث عن إجابة له، غير تلك الإجابات النمطية المحفوظة، فحتى يومنا هذا لم تشهد السينما المصرية إنتاج أى فيلم طويل يعتمد على الرسوم المتحركة، رغم أن بداية ظهور هذا الفن فى مصر لم تتأخر طويلًا عن نظيرتيها فى أوروبا وأمريكا، اللتين تشهدان إنتاجًا سنويًا ضخمًا من أفلام التحريك التى تحقق أعلى الإيرادات ربما تفوق أفلام الدراما والأكشن، وفى مقدمتها شركات «ديزنى» و«بيكسار»، و«فوكس أنيميشن»، بخلاف شركات الإنتاج اليابانية، مثل «نيبون أنيميشن»، غير الاستوديوهات المتطورة فى أوروبا وكندا وأستراليا وجنوب أمريكا.

والمعروف أن مصر صنعت أول فيلم رسوم متحركة فى بداية الثلاثينيات من القرن الماضى، إذ كانت بداية إنتاجه فى مصر تالية لظهور هذا الفن فى الولايات المتحدة ببضع سنوات، وكان أول إنتاج مصرى فى دور العرض بعنوان «مشمش أفندى»، عام ١٩٣٧، أى بعد ١٤ سنة فقط من تأسيس شركة «والت ديزنى» عام ١٩٢٣، و٩ سنوات من ظهور شقيقه الأمريكى «ميكى ماوس» الذى ظهر عام ١٩٢٨.
وكان أول ظهور لهذا الفن فى مصر على يد الإخوة فرانكل، ذوى الأصول الروسية، والذين لجأوا إلى مصر بعد معاناة طائفية واجهتها العائلة بالكامل فى روسيا، لديانتهم اليهودية، ولم يكن «مشمش أفندى» فيلم تحريك فقط، بل كان بمثابة تحدٍ لـ«طلعت باشا حرب»، مؤسس بنك مصر الذى رفض دعم الفيلم بمقولة سعد باشا زغلول «مافيش فايدة»، وقد كانت المقولة هى الشعار «الصولجان» المستخدم فى سلسلة أفلام «مشمش أفندى» التى تم عرضها فى «سينما كوزموجراف»، «كوزموس» الحالية.

ومنذ عام ٣٧ وحتى فترة الستينيات من القرن الماضى، كانت لمصر تجربة مهمة فى الرسوم المتحركة، حيث خصصت قسمًا لتدريس فن التحريك فى المعهد العالى للسينما لإثراء وتطوير هذا الفن الجميل، نتجت عنه أفلام رسومات متحركة قصيرة كمشاريع تخرج طلبة هذا القسم.. وبالرغم من الإمكانيات التى وفّرها معهد السينما للطلبة وتقديمهم مشروعات تجريبية فإنه لم يتم إنتاج مشروع فيلم تحريك كامل بل اقتصر استخدامها فى تترات الأفلام السينمائية التى كانت تقوم بها غالبًا مصممة التترات «نوال»، والمصمم «محمد حسيب»، اللذان نالا شهرة كبيرة فى ذلك الوقت، بالإضافة إلى الاستعانة بالرسوم المتحركة فى مقدمة بعض الأفلام، خاصة إذا كان فيلمًا كوميديًا، أو من النوع الهزلى، مثل أفلام فؤاد المهندس، كما انتشرت الإعلانات التجارية التى تعتمد على الشخصيات الكارتونية على يد «استوديو مهيب» للرسوم المتحركة.

ويعتبر الفنانان حسام مهيب وعلى مهيب، أول من أسسا قسم الرسوم المتحركة فى التليفزيون المصرى بعد نشأته، ودربا عدد كبير من التلاميذ الذين أصبحوا فيما بعد من كبار مبدعى فن الرسوم المتحركة فى مصر، منهم فهمى عبدالحميد، ومحمد حسيب، ونصحى إسكندر، ورضا جبران، وعادل أنور، ورءوف عبدالحميد، وأحمد سـعد، وفايزة حسين، وشويكار خليفة.

كل من هذه الأسماء المبدعة قامت بتقديم أعمال لا تُنسى.. المخرج فهمى عبدالحميد، على سبيل المثال، فى فوازير نيللى بعنوان «الخاطبة» عام ١٩٨١، التى تميزت باستخدام عنصر الرسوم المتحركة المبهج، بالإضافة إلى حلقات مسلسل «ألف ليلة وليلة» لـ«شريهان» عام ١٩٨٥.
واحتكر «استوديو مهيب» إعلانات التليفزيون المصرى منذ نشأته، ومن الإعلانات الشهيرة التى استخدم فيها على وحسام مهيب الرسوم المتحركة، إعلانات مسحوق الغسيل «رابسو» الذى علق فى أذهان المصريين، فأصبحوا يطلقون اسم «رابسو» على جميع أنواع مساحيق الغسيل حتى يومنا، فضلًا عن إطلاق اسم «نستو» على الجبنة المثلثات، وهى العلامات التجارية التى قدم الأخوان «مهيب» إعلاناتها التجارية المبنية على تقنية التحريك، ومن هنا ظهرت القيمة والأثر اللذان يصنعهما الإعلان التجارى الذى يعتمد على فن التحريك والرسوم.
وربما كان هو الاستديو الوحيد الذى أقدم على إنتاج طويل بمقاييس زمانه، فيلم «الخط الأبيض»، عام ١٩٦٣، الذى تتراوح مدته بين ٢٢ و٢٥ دقيقة، بطولة نيللى وماهر العطار وتصوير حسام مهيب وإخراج على مهيب، والذى مزج الصورة الواقعية بالرسوم المتحركة، واللقطات التشكيلية، التى عبّرت عن مختلف الحالات الوجدانية للفتاة بين الفرح والدموع.

ماذا بعد هذا التاريخ المعقول فى إنتاج الرسوم المتحركة؟ لا شىء.. فلم تتقدم شركة إنتاج واحدة للمجازفة باتخاذ خطوة البدء، فكل شركة ركزت على مشكلة التكلفة المادية، والتخوف منها، ولم تفكر فى العائد المضاعف الذى سوف تحصل عليه، ودون أن تلاحظ أى منها أن شركة «ديزنى»، على سبيل المثال، تكلفت ما يقارب مائتى مليون دولار لإنتاج فيلم «Coco»، ولكنها حققت أرباحًا وصلت إلى ثمانمائة مليون دولار، وجائزتين من الأوسكار لعام ٢٠١٧.
يتخوف المنتجون، أيضًا، من الوقت الطويل الذى تستغرقه صناعة الفيلم، التى تصل فى بعض الأحيان إلى ثلاث سنوات أو أكثر، فى ظل بحث المنتجين عن تنفيذ أعمال تجارية تهدف إلى البحث السريع لدورة رأس المال، بينما تعتبر صناعة سينما الرسوم المتحركة فى أمريكا جزءًا من الدخل القومى، فإذا بلغت قيمة ما يتم إنتاجه سنويًا ٤٠ مليار دولار فإنها تسترده ٤٠٠ مليار، خصوصًا مع ما يصاحب تلك النوعية من الإنتاج من تسويق للدمى وألعاب الأطفال التى تسبق عرض الفيلم، وتحقق أرباحًا خيالية فيما بعد إنتاجه وعرضه.
نعود إذن إلى السؤال.. لماذا لا نصنع أفلامنا بدلًا من اللجوء إلى «الدوبلاج»، واستخدام أصوات الفنانين المصريين حتى تتحدث «أفلام ديزنى» العامية المصرية؟.