جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عودة إلى حكم الضباط الملتحين


كتبت الأسبوع الماضى عن الحُكم الذى أصدرته المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار ماهر أبوالعينين الذى قضى بحق الضباط الملتحين بالعودة إلى الخدمة، وإلغاء قرار مجلس التأديب الصادر بشأنهم ومجازاتهم بخصم خمسة عشر يومًا من رواتبهم.
كان الكلام فى حدود وجوب مواجهة المجتمع للآثار السلبية التى تركها مشروع الإسلام السياسى فى الأمة كلها، حتى وصل الأمر بنا إلى أن من يريد أن يمارس عملًا دينيًا خالصًا يصل به إلى الحكم فما عليه إلا أن يُنشئ حزبًا دينيًا ثم يقول عن حزبه إنه «حزب مدنى بخلفية دينية» أو بـ«مرجعية دينية» وكان من الآثار التى تركها ذلك المشروع الدينى المنحرف تلك اللحى التى أطلقها بعض ضباط الشرطة التابعين فعليًا لذلك المشروع الدينى المنحرف، ثم كان أن كتبت عن حكم الإدارية العليا الذى أدخل نفسه إلى دائرة البحث الشرعى عن إطلاق اللحى، وعَرَضَ الحكم كل الاجتهادات الخاصة بهذا الأمر حتى ظننت وأنا أقرأ الحكم أنه صادر عن دائرة شرعية فى إحدى دول الخليج وليس من محاكم مجلس الدولة فى مصر.
ولأننى سأكتب بعد ذلك عن هذا الحكم بالتفصيل، وسأبدى رأيى فيه وفى الاتجاهات التى ذهب إليها مجلس الدولة مؤخرًا لذلك فإننى سأضع أولًا الخطوط الفاصلة بين التعليق على الأحكام ونقدها، ومهاجمة القضاة وتجريحهم، وبين نشر تفصيلات المحاكمات أثناء انعقادها من ناحية أخرى.
فمما لا شك فيه أن هناك فارقًا كبيرًا بين مهاجمة القاضى الذى أصدر الحكم فى قضية ما، وبين التعليق على الحكم نفسه رفضًا أو نقدًا أو تجريحًا أو قبولًا، أما عن القاضى الذى يُصْدِر الحكم فله كل التوقير والاحترام، وليس لأحد أن يتعرض لشخصه أو يمس ذاته أو يتوغل فى ضميره أو يفتش فى مكنون نفسه، ولكن الحكم الذى يصدر عن هذا القاضى فإنه حتمًا يمس شخصًا ما، أو يتعلق بشريحة ما، أو يستجلب عدة مصالح اجتماعية أو اقتصادية، لطبقة أو فئة من فئات المجتمع، وإذا كان الحكم بهذه المثابة لا ينفصل عن الناس وعن مصالحهم، فإنه طبقًا لذلك يحق لهؤلاء الناس أن يناقشوا هذا الحكم سواء كانت هذه المناقشات من أهل الاختصاص أو من غير أهل الاختصاص.
ولقد عشتُ حياتى المهنية فى قاعات المحاكم وبين صفحات المراجع القانونية فتعلمت منها ومن أساتذتى الكبار، رحمهم الله، أن القاضى الذى أصدر الحكم له منّى كل التوقير والتبجيل، أما عن الحكم ذاته فلى الحق فى نقده ونقضه بكل قسوة واتهامه، الحكم لا القاضى، أمام المحكمة الأعلى وأمام الرأى العام بالفساد فى الاستدلال والقصور فى التسبيب، وما ذلك إلا ليعلم الناس أن الحكم لا يتستر وراء حماية أو يلتحف بقداسة، وظلت بوصلة الرأى العام فى مصر منذ آماد بعيدة تميل إلى هذا الحق ولا تميل إلى سواه، بل وظلت أحبار المطابع تخرج لنا عبر عقود طويلة سواء فى المجلات الدورية المتخصصة أو غير المتخصصة أو فى الصحف المختلفة أو حتى فى الكتب التى يتم طرحها علنًا على الجمهور- مئات بل آلاف التعليقات المختلفة بالنقد والتجريح على الأحكام التى تَصدر عن المحاكم سواء كانت هذه التعليقات صادرة عن أصحاب الاختصاص أو من غير أصحاب الاختصاص، ولم يقل أحد من وقتها إن التعليق على أحكام القضاء ممنوع، أو إن هذا التعليق يمثل جريمة تخل بهيبة القضاء، لأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، والنصوص التى أوردتها القوانين العقابية لا تعاقب إلا على كل من أهان أو سبّ الهيئات القضائية أو المحاكم، أو كل من أخل بمقام قاضٍ أو هيبته أو سلطته فى صدد دعوى مقامة أمامه، وعلى ذات السياق تعاقب القوانين كل من نشر أمورًا كاذبة أو مختلقة من شأنها التأثير فى القضاة الذين يناط بهم الفصل فى الدعاوى المطروحة أمام أى جهة من جهات القضاء فى البلاد، واللافت للنظر أن القضايا التى عُرضت على القضاء فى السنوات الأخيرة تعرضت لهجمات إعلامية شرسة لم تكن تبتغى الحقيقة، ولم تعرض ما لديها بصدق، ولكنها بحثت عن المشاهد والقارئ ومنافسات النشر والتوزيع والمشاهدة التى تجلب الإعلانات.
ولقد لعبت القنوات الفضائية دورًا كبيرًا فى الترويج لبضاعتها من خلال هذه القضايا، وتسابقت نحو هذه الوجبات الإعلامية الجاهزة، فأدانت المتهمين قبل أن يتم عرضهم على القضاء، وبرأت من وجدت أن الرأى العام سيتعاطف معهم، ومن الأمور المبكية والمضحكة فى آن واحد أن القنوات الفضائية قامت ومعها عدد من الصحف بدور المحامى الذى يدافع عن المتهم، وقامت حينًا آخر بدور الادعاء الذى يُطالب برقبة المتهم، ثم قامت بعد ذلك بدور القاضى الذى سيحكم فى القضية، وكانت الكارثة حين استطاعت بعض الصحف نشر جانب من تحقيقات النيابة العامة، فى حين أن نشر هذه التحقيقات هو أمر فى منتهى الخطورة، نظرًا لأن هذه التحقيقات لا يمكن أن يلج إلى مفاهيمها وأدلتها وقرائنها إلا المتخصص، ومن شأن هذا النشر المبتسر أن يوجه الرأى العام ويحيد به عن الحق، فضلًا عن أن بعض هذه القضايا قد يكون قائمًا على أمور خاصة بأسرار الدفاع فى الدولة، ومنها مثلًا قضايا الجاسوسية التى تمادت الصحف فى السنوات السابقة حين نشرت كل تفصيلات تحقيقات النيابة العامة فى إحدى قضايا الجاسوسية رغم أن هذا النشر معاقب عليه قانونًا وفقًا للمادة ٨٥ من قانون العقوبات التى جاء فيها أنه لا يجوز نشر الأخبار والمعلومات والتحقيقات والتدابير التى تتخذ لكشف الجرائم المضرة بأمن الدولة.
وإذا كان البعض يتذرع بأنه لا يمكن أن يتأثر القاضى بما يُنشر فى الصحف أو يُذاع فى القنوات الفضائية، فإن هذا الزعم غير صحيح، إذ إن القاضى الذى يجلس فى منصة القضاء هو فى الحقيقة من آحاد الناس، يتأثر ويحب ويكره ويميل، إلا أن نزاهته تغلب عليه فيستقيم حكمه، ولكن ماذا لو تأثر القاضى بما نُشر فى الصحف، وماذا لو تعرضت أسرة القاضى ومجتمعه القريب منه لتعاطف مع متهم أو كراهية له، ألن يصل هذا التأثير لوجدان القاضى؟.
وإذا كان هناك حق للصحفى فى نشر أخبار القضايا أثناء نظرها رعايةً لحقوق المعرفة التى لا ينبغى منعها فليس هناك من حرج فى ذلك ولكن فى حدود المتابعة الخبرية، أما عن الرأى والميل إلى هذا أو التعاطف مع ذاك فليكتب من أراد الكتابة، ولينشر من أراد النشر، فليس هناك حجر على إبداء الرأى ولكن ينبغى أن يكون هذا بعد صدور الحكم، أما الخط الذى لا يجوز تجاوزه هنا فهو الدخول إلى منطقة المساس بشخص القاضى واتهام ضميره والتعدى على كرامته مهما وصلت درجة شذوذ الحكم، فأنا وأنت ونحن نستطيع أن نصف الحكم بالفساد ولكننا لا ينبغى أبدًا أن نصف القاضى الذى أصدر الحكم بالفساد، ونستطيع كذلك أن نصف الحكم بالقصور أو الانحراف عن الصواب ولكننا لا ينبغى أبدًا أن نصف القاضى نفسه بالانحراف إذا ما اتخذ فى حكمه وجهة لا نقره عليها وإلا لوقعنا تحت طائلة العقاب، فإذا انقلب التعليق وقتئذ من نقد للحكم وتجريح له إلى نقد للقاضى الذى أصدر الحكم فإننا نكون بصدد خروج عن النقد المباح إلى الإخلال بهيبة القاضى وهيبة القضاء، وهو الأمر الممنوع من حيث القانون والمستهجن من حيث العُرف، وسيكون مقالى القادم متضمنًا تعليقى على حكم الإدارية العليا، وبعض أحكام صدرت من مجلس الدولة مؤخرًا فانتظرونى.