جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

سعيد شعيب يكتب: هل حقًا نكره إسرائيل لأنها دولة احتلال؟

جريدة الدستور

ما زلت أذكر زميلى البنجلاديشى المسلم فى فصل تعليم اللغة الإنجليزية فى كندا، عندما فاجأنى بأنه يكره إسرائيل كراهية التحريم. اندهشت لأن بلده أبعد ما تكون عن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى وعن الشرق الأوسط، ثم إن فى بلده همومًا ومشاكل أكبر بكثير من هموم شعب آخر، فما الذى يربطه بهذا البلد البعيد؟، ولماذا يحمل له كل هذه الكراهية؟ هل السبب أن إسرائيل تحتل أرضًا لشعب آخر.

ربما لأنه من الصعب الإجابة بنعم قاطعة، لأن هناك أرضًا أخرى محتلة لبلاد «إسلامية» ولم يغضب المسلمون. على سبيل المثال إيران تحتل ثلاث جزر إماراتية منذ عام ١٩٧١.

وتحتل منطقة عرب الأهواز منذ عام ١٩٢٥، حيث تضطهد السنة (أكرر السنة) منذ حكم الخمينى، ومع ذلك لم تخرج مظاهرة واحدة فى أى مكان ضد المحتل شاه إيران السابق أو ضد الملالى الحاليين، لم يفكروا فى مناصرة السنة هناك، لم نرَ صورًا أو فيديوهات أو سياسيين وإعلاميين يصرخون لمناصرتهم، ولو لمرة واحدة.
لواء الإسكندرونة السورى تحتله تركيا منذ عام «١٩٣٩» أى قبل نشأة إسرائيل.

ومع ذلك لم يتظاهر مسلم واحد يرفض هذا الاحتلال الاستيطانى الغاشم، ولا حتى من يحكمون سوريا يذكرونه، يذكرون فقط من حين إلى آخر هضبة الجولان التى تحتلها إسرائيل.
كما أنك بالتأكيد تعرف أنه لا يوجد أى غضب من الاحتلال العثمانى لكثير من البلاد ذات الأغلبية المسلمة. فتقريبًا هناك تواطؤ جماعى بين المسلمين للسكوت عنه رغم أنه خرب هذه البلدان، وحتى لو لم يخربها فهو فى النهاية احتلال. نرفض الاحتلال البريطانى، لكننا نرحب بالاحتلال التركى العثمانى.

«الإخوان» وأنظمة القومية العربية واليسار وراء فكرة العداء لـ«تل أبيب» دون غيرها من المحتلين
لماذا يسكت أغلب المسلمين عن احتلال إيران وتركيا لأراض وهما مثل إسرائيل يمارسان الاحتلال الاستيطانى، الذى يهدف إلى تغيير التركيبة السكانية؟ فهل هناك احتلال حرام وآخر حلال؟ هل يليق بالمسلم أن يدعم احتلالًا ويرفض آخر؟.
نعم، أكد لى هذا المعنى محمد مهدى عاكف مرشد جماعة الإخوان المسلمين السابق بصياغة أخرى فى حوار صحفى منشور عام ٢٠٠٦. فقد كنت أسأله: ماذا سيكون موقف جماعتكم إذا احتل فلسطين مسلمون؟
رد بحدة غاضبًا: ليس هناك مسلم يحتل مسلمًا.
عندما قلت له: العثمانيون على سبيل المثال، وهم أتراك مسلمون، احتلوا مصر وفلسطين وغيرهما من البلاد، اندهش والتفت مستنكرًا ينظر إلى الموجودين (نائبه محمد حبيب وعضو مكتب الإرشاد عبدالمنعم أبوالفتوح): «بيقول الأتراك احتلال؟!». والتفت إلىَّ، وقال: «لا يوجد مسلم يحتل مسلمًا، فهذا ليس احتلالًا». اختتم مهدى عاكف إجابته بالتأكيد على أنه ليس لديه مشكلة فى أن يحكم مصر «مسلم من ماليزيا»، وقال عبارته التى أصبحت مشهورة «طظ فى مصر وأبومصر واللى فى مصر».
لعلك تعلم أن الإخوان فجروا شركات ومصالح ليهود مصريين، انتقامًا من يهود آخرين احتلوا فلسطين، رغم أن هؤلاء اليهود يعيشون مواطنين مصريين فى بلدهم، ولم يحملوا سلاحًا ضد أحد. فالعداء يبدو أنه ضد عموم اليهود. وهذا يفسر كيف كان الإخوان وعموم الإسلاميين يرددون فى تظاهراتهم ضد إسرائيل «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود». يستحضرون المعارك التى خاضها سيدنا النبى محمد ضد يهود فى مدينة يثرب وغيرها. يستحضرونها، وكأنها تحدث الآن، إنها بالنسبة لهم معركة أبدية ضد اليهود فى كل زمان ومكان.
ليس عاكف وحده ولا جماعة الإخوان وحدهم هم الذين يتبنون العداء للمحتل الإسرائيلى دون غيره، فكذلك فعلت أنظمة الحكم ذات الطابع العسكرى مع «لطشة» قومية، التى اجتاحت الشرق الأوسط بعد رحيل الاستعمار الغربى، فقد صبوا غضبهم على الاحتلال الإسرائيلى، وتجاهلوا تمامًا أراضيهم «العربية» الأخرى. بل فعلوا الأغرب، وهو أنهم طردوا مواطنيهم اليهود وسرقوا أموالهم وممتلكاتهم. ذهب معظم فقراء اليهود المصريين إلى إسرائيل، لأنهم لا يملكون المال للذهاب إلى بلاد أخرى. أى أن حكامنا دعموا إسرائيل بطاقة بشرية. كانوا يؤجلون أى مطالب اجتماعية أو ديمقراطية إلى ما بعد تحرير فلسطين من النهر إلى البحر «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
كما تعرف فإن أغلب الناصريين والبعثيين أيضًا (أنصار القومية العربية يرتكزون على الإسلام)، كانوا يحتاجون الإسلام لحشد الجماهير. بنوا جزءًا أساسيًا من شرعية حكمهم على العداء لإسرائيل وحدها. على سبيل المثال تحتل إسبانيا ٢١ جزيرة مغربية فى البحر المتوسط والمحيط الأطلسى، وتحتل أيضًا مدينتى مليلية وسبتة داخل المغرب، ومع ذلك لم ينشغل ملوك المغرب باسترداد هذه الأرض المحتلة، فى حين كانوا مشغولين طوال الوقت باحتلال إسرائيل لفلسطين، وكان الملك السابق محمد الخامس، رئيس صندوق القدس، هدفه هو استعادة القدس، وليس أرض المغرب المحتلة.
لقد منح هؤلاء الحكام (مثل الإسلاميين والقوميين) طابعًا دينيًا لهذا الاحتلال الإسرائيلى، فجعلوه حربًا ضد عموم اليهود، بمن فيهم حتى مواطنوهم. لذلك تم طرد اليهود المصريين بطرق مختلفة بعد العدوان الثلاثى على مصر من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل عام ١٩٥٦، فما هو ذنب اليهود المصريين؟.
حتى اليسار بتنويعاته المختلفة، وعلى رأسهم الشيوعيون، لم يكن السبب الرئيسى لعدائهم لإسرائيل هو الاحتلال. فقد كان الاتحاد السوفييتى السابق يحتل جزءًا كبيرًا من أراضى شعوب أخرى فى القوقاز. كما اجتاح الاتحاد السوفييتى بالسلاح دولًا أخرى لفرض أيديولوجيته الماركسية، مثل بولندا وأفغانستان. ومع ذلك لم أقرأ أو أشاهد أى انتقاد لهذه الإمبراطورية الاستعمارية السوفييتية المحتلة لشعوب أخرى. فهل هناك احتلال تقدمى وآخر رجعى؟ هل يليق بضمير أى إنسان أن يدافع عن احتلال ويحارب آخر؟

الشيوعيون يعادون الدولة الصهيونية لأنها «صنيعة الرأسمالية».. والإسلاميون يتحركون وفقًا لديانة المحتل
لماذا إذن كرهوا إسرائيل؟
السبب الأساسى هو أن إسرائيل هى «رأس الحربة للإمبريالية الرأسمالية العالمية»، أى أن الإمبريالية زرعتها لكى تدمر الاشتراكية فى منطقة الشرق الأوسط. وربما تعرف أن الماركسية للأسف تحولت لدى أغلب الشيوعيين فى منطقتنا إلى دين، فتمت شيطنة الصراع، وأصبح مثلهم مثل الإسلاميين يرفضون إسرائيل ليس لأنها دولة احتلال، ولكن لأنها «صنيعة» العدو الأكبر والشيطان الأعظم «الرأسمالية». فالموقف من الاحتلال يحدده من هو المحتل، إذا كان شيوعيًا أو يساريًا نصمت، بل ربما نسانده وندعمه. أما إذا كان من «الرأسمالية الإمبريالية الشريرة»، فلا بد أن ننتفض ونحاربه حتى آخر نفس.
هذا معناه «أسلمة الصراع وشيطنة إسرائيل»، فالثقافة السائدة فى الشرق الأوسط مصدرها الإسلاميون واليسار، وتأثر بها قطعًا كل أبناء الشرق الأوسط من كل الديانات والأعراق. فى الثقافة الإسلامية التقليدية يحدد المسلم موقفه من الاحتلال حسب ديانة المحتل. يحدد موقفه من أى جريمة حسب ديانة المجرم، فإذا كان مسلمًا يصمت تمامًا، وربما يسانده، لذلك لم تخرج مظاهرات ضد جرائم داعش، ولم تخرج مظاهرات ضد إيران ولا تركيا، فالجانى هنا مسلم، ولم يدعُ أهل اليسار لمظاهرات ترفض التدخل العسكرى السوفييتى فى بولندا وأفغانستان.
هذا يفسر أيضًا الفخر الشديد لو كان المحتل مسلمًا، فمثلًا نسمى غزو واحتلال قبيلة قريش وحلفائها لبلدان المنطقة «فتحًا»، ونسميها «خلافة إسلامية»، ولا نسميها «احتلال قريش» أو «الاحتلال العربى» نسبة إلى الجيوش العربية القادمة من الجزيرة العربية بقيادة قبيلة قريش. بل نفعل الأغرب، وهو أن ننسبه إلى الإسلام، وليس إلى مجموعة من المسلمين، هم فى النهاية مثلنا يخطئون ويصيبون.
إذن هل العداء لإسرائيل ليس سببه الأول الاحتلال؟
يمكننى القول باطمئنان نعم. دعنى أقول لك مثالًا آخر يدعم هذه النتيجة. فأغلب إن لم يكن كل المسلمين يفخرون بـ«الأندلس»، وهى احتلال استيطانى (مثل إسرائيل) لجزء من إسبانيا قام به مسلمون (فرع من بنى أمية من قبيلة قريش). كما أنهم يفخرون باحتلال الخلافة التى يسمونها «الإسلامية» لأكثر من نصف العالم. فى ذات الوقت يكرهون الغرب لأنه استعمر بلادهم. المسلمون هم الوحيدون الذين ما زال أغلبهم يحلمون باستعادة الإمبراطورية الاستعمارية «الإسلامية» والسيطرة على العالم مجددًا. ما زلت أذكر الناقد السينمائى الشهير الذى شتمنى (نعم شتمنى فى مقالة)، لأننى قلت فى منتصف التسعينيات تقريبًا فى جريدة العربى الناصرى إن الأندلس احتلال. وبالطبع رددت عليه دون شتيمة، ولم يرد. هذا الناقد ليس إسلاميًا، لكنه ناصرى. وأغلب الناصريين يتفقون فى هذا مع الإسلاميين.
إذن هل السبب دينى؟
نعم للأسف، لقد استطاعوا أسلمة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى وجروا منطقة الشرق الأوسط والمسلمين فى كل مكان فى العالم وراءهم. لا يختلف فى ذلك من اختصروا الصراع فى المسجد الأقصى (المشكوك فى قداسته) عن زميل دراستى الشاب البنجلاديشى. فالمعركة هى نصرة الدين من وجهة نظرهم، وليس نصرة البشر الفلسطينيين. فالمنافسة كانت وما زالت ضارية للانتصار لـ«القدس إسلامية»، وليس الانتصار لحقوق الشعب الفلسطينى فى حياة إنسانية كريمة.

«الصبغة الدينية» لم تُعد للفلسطينيين حقوقهم بعكس تجربة مانديلا
ما الأساس الدينى للأسلمة؟
عندما هاجر سيدنا النبى محمد (ص) من مدينته «مكة» إلى مدينة «يثرب»، تحول الإسلام من مجرد دعوة دينية إلى وحدة سياسية، بالمصطلحات الحديثة تحول إلى «وطن». حمل سيدنا النبى (ص) وأنصاره السلاح، وخاضوا صراعات مسلحة وغير مسلحة لحماية ونشر دينهم. إحدى القوى المنافسة لسيطرة هذه الدولة الوليدة كان بعض قادة اليهود، الذين يعيشون فى يثرب وغيرها. طبقًا لما وصلنا من هذا التاريخ يسمونه «إسلاميًا» (من الصعب التأكد من صدق كل ما وصلنا) فقد أباد النبى (ص) قبيلة قريظة (لا يمكننى أن أصدق ذلك)، وأنهى من حكموا بعده الوجود اليهودى فى الجزيرة العربية.
هذا الصراع موجود فى آيات قرآنية منها:
المسلم طبقًا للتفسير السائد يلعن اليهود والنصارى (المسيحيين) ١٧مرة يوميًا، لأنه يقرأ سورة الفاتحة ١٧ مرة فى الخمس صلوات، وتتضمن «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ» والمقصود بغير المغضوب عليهم طبقًا للمفسرين هم اليهود، والضالون هم النصارى.
■ «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود» (المائدة آية ٨٢)
■ «ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا» (البقرة آية ٢١٧)
■ «كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون فى الأرض فسادًا» (المائدة آية ٦٤)
وأحاديث منسوبة لسيدنا النبى:
■ «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر ووراءه اليهودى: يا مسلم هذا يهودى ورائى فاقتله» رواه البخارى.
■ «لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا» أخرجه مسلم.
المشكلة هى أن الفقه السائد فى أوساط المسلمين (سنة وشيعة) تقرأ هذه الآيات وكأنها حدثت الآن، ترى أن هذا الصراع أبدى فى كل زمان ومكان، فهو لا يخص فقط بعض اليهود، الذين كانوا يعيشون فى الجزيرة العربية فى زمن سيدنا النبى (ص)، ولكنه يخص كل اليهود فى كل مكان وزمان.
هذا معناه أنه صراع بلا حل، لأنه ليس صراعًا سياسيًا ولكنه دينى، فالمسلم طبقًا لهذا الفهم لديه أمر إلهى بإبادة اليهود فى كل مكان وزمان، إنها الكراهية المقدسة.
أصحاب هذا العداء الأبدى للآخر عمومًا ولليهود خصوصًا، تجاهلوا الجزء الآخر من القرآن الكريم الذى يمدح اليهود، بل يجعلهم أفضل البشر، من هذه الآيات:
«يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ» (البقرة ٤٧).
وأيضًا فى «فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤)» (الإسراء).
أى أن الله جل علاه فضل اليهود على العالمين، كما وقف فى صفهم ضد فرعون وأغرقه هو وجيشه، ومنحهم الحق فى الأرض المقدسة، والتى فسرها كبار المفسرين بأنها من نهر الفرات بالعراق إلى ما بعد مدينة العريش بمدينة سيناء.
لكن أغلب الإسلاميين والقوميين وغيرهم، تجاهلوا ذلك واستندوا إلى الجزء الآخر، حتى يحولوا اليهود كل اليهود إلى أعداء، وعلى المسلم القضاء عليهم.
هل أفادت الأسلمة الشعب الفلسطينى؟
كما ترى على أرض الواقع: لا.. فهذه الطريقة فشلت فى أن تعيد للشعب الفلسطينى حقوقه. ناهيك عن معاناته مع من قادوه بشكل ديكتاتورى سواء عندما كانوا خارج فلسطين، أو عندما تم منح الضفة الغربية وقطاع غزة حكمًا ذاتيًا. فإذا كانت هذه الطريقة فشلت طوال أكثر من ٦٠عامًا، ألا ترى أنه من الجنون أن نصر على استخدامها، ونتوقع نتائج؟ أى نتوقع أن يحصل الشعب الفلسطينى على حقوقه الإنسانية. فى حين أن هناك تجارب أخرى فى العالم نجحت فى تحرير شعوبها، أبرزها بالطبع تجربة الزعيم الأسطورى «نيلسون مانديلا» الذى لم يصبغ الصراع مع البيض بطابع دينى أو عنصرى، ولكنه بنى مشروعه على أساس إنسانى، بناء بلد العدل والمساواة للجميع.

«الأيديولوجيا الإنسانية» السبيل الوحيد لحل الصراع المعقد بعيدًا عن «تلفيقات الدين» عند المسلمين واليهود
هل ما أقوله هدفه هو الدفاع عن إسرائيل؟
بالطبع لا، فأنا ضد الاحتلال أيًا كانت عقيدته الدينية، فليس هناك احتلال «حلال» وآخر «حرام». أنا معك فى أن يعود أبناء وأحفاد اليهود الذين احتلوا إسرائيل إلى بلادهم الأصلية، لكن فى ذات الوقت لا بد أن تطالب بعودة أحفاد «قبيلة قريش وحلفائها» إلى الجزيرة العربية. وتطالب أيضًا بعودة أحفاد الأتراك، الذين احتلونا إلى بلادهم. فازدواجية المعايير ضد القيم الكلية للإسلام. فلا يليق بنا كمسلمين أن ندعم احتلالًا لأن من يقوم به مسلم، فهذا فى رأيى يهدم أسس العدالة، التى يدعونا إليها الإسلام.
كما أننى أظن أن قطاعًا لا يُستهان به فى إسرائيل استفاد من أسلمة الصراع، فهم أيضًا يريدون «تهويد» الصراع، ويطالبون بـ«يهودية الدولة». كما لا بد من الإشارة إلى أن الذين سعوا لتأسيس هذه الدولة استفادوا من الأساس الدينى لـ«أرض الميعاد» فى التوراة، فقد لعبت دورًا لا يُستهان به فى حشد كثير من اليهود من كل أنحاء العالم.
الحقيقة أن «تهويد» الصراع أيضًا لم يحل المشكلة، فلم تمنح الشعب الإسرائيلى الأمان ولا منحته علاقات طبيعية مع جيرانه.
فـ«تديين الصراع» من قبل الطرفين خطر كبير. السبب أن الصراع الدينى لا يمكن أن نحله، فلا يمكن الوصول فيه إلى توازن، ولو حدث فهو مؤقت، لأن هدف كل طرف هو إبادة الطرف الآخر، أو خضوعه بالكامل. فلدى كل منا كتاب مقدس يختلف بالضرورة وربما يتناقض كتابى المقدس مع كتابك المقدس. هذا الصراع دفعت ثمنه الإنسانية غاليًا، ملايين من الضحايا على امتداد التاريخ فى حروب دينية.
لقد تجاوزت البشرية كل ذلك، وأصبحت الأوطان لا تتأسس على دين، ولكن على حقوق إنسانية لكل من يعيشون على أرضها. هذه الحقوق يحصل عليها الإنسان لأنه إنسان. لا علاقة لذلك بدينه أو لونه أو عرقه أو عقيدته. هذا الأساس الإنسانى هو الذى يجب أن نرى من خلاله الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى.
لكن من الصعب أو للدقة من المستحيل تحقيق ذلك دون تفكيك هذه الأيديولوجيا المنسوبة إلى ديننا العظيم فى الجانب الفلسطينى، ودون تفكيك أيديولوجيا الذين يدفعون فى طريق «يهودية دولة إسرائيل». فدون تأسيس أيديولوجيا إنسانية بديلة من الصعب أن نتوقع فى المدى المنظور تحقيق السلام والحرية والرفاهية للشعبين الفلسطينى والإسرائيلى.