جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

"بدلة للإيجار".. رحلة النصب بزي عمال النظافة في شوارع المحروسة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

أسفل محور 26 يوليو بالمهندسين يقف "إسلام" شاب عشريني يُدلي الناحية اليمنى من سرواله ليظهر أسفل بنطال"جينز أبيض" يضع في جيبه حفنة من النقود، يصحبها نظرة تحدي مملوءة بالغضب منا بعدما جلسنا للحديث مع عامل نظافة ورفضنا إعطائه ما طلب من المال ليعلق"اللي ما أخدوتش منك ربنا هيبعتهولي"بينما يُثبت بيده الأخرى "جوال" من البلاستيك، يرفع سرواله مرة أخرى ويذهب لاستكمال جولته.
رحلة يومية لإسلام وغيره ممن ينتحلون صفة عمال نظافة تابعين لأحد الأحياء أو الشركات، الهدف الأول منها هو جني الأموال ويكون موسمها الأكبر طوال شهر رمضان وفي الأعياد، يلتزم إسلام وأقرانه بارتداء البدلة كاملة أكثر من عمال النظافة الأصليين، فهم لن يتراجعوا عن إقناعك بكونهم عمال نظافة دفعتهم رقة الحال إلى سؤال المارة.

"القانون الأول للبدلة.. لا تُفنى ولا تستحدث من عدم"
البداية كانت مع خبر نُشر منذ أكثر من عام عن أحد المسؤولين التقى صُدفة برجل يرتدي بدلة عامل نظافة ويطلب منه أن يساعده بالمال أمام الحي، ليتضح أنه ليس عامل بالحي وحصل على البدلة من أحد عمال النظافة بالإيجار مقابل 50 جنيه، لنلتقط بعدها الخيط في محاولة لتوضيح الرؤية.
تداول البدل يتم بأكثر من طريقة، أولها الإيجار من أحد عمال النظافة، وثانيها السرقة، أما الثالثة فهي استغلال بعض عمال النظافة للبدلة.
يتلخص هذا الاستغلال في شراء الهالك من البدل والتي تبقى في عهدة العمال حتى بعد التقاعد وانتهاء مدة الخدمة، من المعتاد أن يتسلم العامل بدلة في مطلع كل عام ولكن أيًا كانت حالتها فهي لاترد إلى الشركة أو الحي، تلك الثغرة التي يستغل الشحاذون منها العمال لبيع مالديهم من بدل هالكة، وتُقدّر قيمتها على حسب حالتها ومدى وضوح شعار المحافظة أو الحي عليها وغالبًا لا يزيد ثمنها عن خمسين جنيه.
على "النجيلة" الموجودة أسفل المحور تمدد شعبان عبدالرحمن 59 عام متوسدا نعليه، يرتدي الجزء العلوي من البدلة الرسمية لعمال نظافة حي الجيزة، بينما يرتدي بنطال"رياضي"، حاولنا إيقاظه للتحدث عن مهنة عامل النظافة بين الانتحال والمزاولة.
وكان اختياره للحديث بناء على الزيي غير المكتمل الذي وضعه محل شبه منا ومن الشرطة في عدة مرات على حسب ما روى لنا، لذا لم يتردد في إظهار هويته في اللحظات الأولى من الحديث والتي تُظهر بالفعل أنه يعمل "جناينى أول" وعامل نظافة في نطاق حي المهندسين، ومن الدقي لأول عرابي والبطل أحمد عبدالعزيز تنقل "شعبان" طيلة الخمس وعشرين عام الماضية، مرجعا عدم ارتدائه للبنطال الخاص بـ"البدلة"لعدم ملائمة المقاس لجسده النحيل.

يأتي كل يوم على دراجته من منطقة الكوم الأخضر حيث يقيم الأمر الذي يستغرق نحو الساعة إلا ربع، لا يعبأ بالعمل أو اجهاده لكن الاهانات والمضايقات التي بات يتعرض لها بسبب المنتحلين لهويته، فيذكر أن كثيرًا ماتأتي المباحث والشرطة للقبض على السالف ذكرهم ويأتي ذلك في الكثير من الأحيان بناءًا على شكاوي العابرين والسكان من مضايقاتهم ولكن لا تطول غيبة"الشمحطجية" –حسب وصفه- كثيرًا وسرعان من يعاودوا ممارسة نفس الأفعال مرة أخرى.
في عالم "الشمحطجية" يا الدفع يا السب
لم نسلم نحن من تلك الأفعال، فأثناء الحديث مع "شعبان" ظن إسلام أننا نحسن إليه ونعطيه زكاة الفطر والتي يتجول من أجل جمعها في نهار رمضان، ليس اسلام وحده من يأتي في شهر رمضان فبحسب ماذكر "شعبان" هو الموسم السنوي لعملهم يأتون مجموعات كبيرة فمثلًا في نطاق عرابي واسفنكس مالا يقل على 15 فرد يوزعوا أنفسهم، على مداخل الشوارع الرئيسية ويتعمدون اختيار الأماكن الراقية ذات المستوى المعيشي المرتفع وأبرزها الزمالك والمهندسين.
لكن حينما تيقنْ "إسلام" عكس ماظن كان السباب والدعوات من نصيبنا، وهنا أشار " شعبان" إلى أن هذا هو السلوك المعتاد حين يرفض أحد اعطاء إسلام وأمثاله أموال، لذا فهي بمثابة إتاوة يفرضونها على المارة دون العمل الفعلي في نظافة الحي،
عُرض على "شعبان" أن يبيع بدلته أكثر من مرة، ومع الوقت علم المصادر الأخرى لتلك البدل أنها من العمال الذين سُرحوا من الشركات المتعهدة بالنظافة وانتهت تعاقدها وحتىأن هناك البعض من العمال بعد أن أصبحوا بدون عمل لجأوا لاستخدام الزيي لنفس الغرض.

رحلة شراء البدلة
"ده عامل نظافة بحق وحقيق مش زي التانيين" قالها "أبو عبدالله"-بائع متجول-الجالس خلفنا على أحد المقاعد الرخامية أسفل المحور ليزيل أي شبهة للشك في كون شعبان عامل نظافة تابع للحي، ويوضح لنا بعد ذلك الفارق بين الأصلي والمنتحل.
حيلة الزي لا تنطال على أبو عبدالله فهو يعلم جيدا كل من يتواجدون في محيطه بميدان سفنكس وميدان لبنان بالمهندسين، ويتحدث عنهم باسم كل منهم واصفا ملامحه وزيه، ووقت ومنطقة العمل، ويقول أبو عبدالله أن شهر رمضان يعد موسم لهذا الأمر، وتشتد ذروته في الأيام الأخيرة من الشهر خاصة يومي الوقفة والعيد.
خبرته بتفاصيل عالم"الشمحطجية"-كما وصفهم- أغرته في أيام ضيق الرزق وعدم إيجاد عمل بعد أن حٌرر له محضر تجول لبيع سلعة تافهة، أن يشتري بدلة مقابل خمسين جنيه لكن خوفه من رؤية أبنائه له في هذا الزيي حال بينه وبين مزاولة هذا الفعل.
وعن رحلته لشراء البدلة أوضح أن هناك طريقان، فالبعض يلجأ لشراء"الأفارول" من ميدان الموسكي بالعتبة، وهي حيلة تخيل على المارة وأصحاب السيارات الفارهة فبمجرد رؤية البدلة أي كان نوعها تعطي ثقة ممتزجة بتعاطف مع مرتديها، أما الطريق الثاني والذي اختاره لنفسه فهو شراء بدلة من أحد المتقاعدين من عمال النظافة، والتي تحمل"شارة" إحدى شركات النظافة، أو الحي التابع لها صاحب البدلة الأصلي.

زكاة الفطر.. الهدف الأساسي للمُنتحلين

ومن المهندسين انتقلنا إلى قصر النيل، لا يوجد اختلاف كبير في المستوى المعيشي بل على العكس تتميز بانتعاشة أكبر من قبل السياح العرب والأجانب، أي انها مغرية لهم أكثر من أي منطقة، لكن يندرون على غير المتوقع ويبرر "سيد عبدالسلام" عامل نظافة في منطقة قصر النيل غرب ذلك بالتواجد الأمني لكثرة عدد السفارات الهامة فهم يتحرون عن ماهية كل شخص ولا يسمحوا بمزاولة اي نشاط مخالف.
وفي الدقي يتحدث محمد عبد الغفور (اسم مستعار) الذي يعمل في هيئة النظافة بنظام التعاقد رغم بلوغه سن المعاش، حول الأوقات التي يضطر فيها عامل النظافة الحقيقي لقبول الصدقة من المارة، مؤكدا أنه لا يبادر بطلبها من أحد، موضحا أن الكثيرين يحرصون على إخراج زكاة الفطر والصدقات، ما يجعل من مهنته مطمعًا لمنتسبيها من المتسولين.
لا توجد وسيلة للتفريق بين عامل النظافة والمتسول المنتسب للمهنة، من وجهة نظر «عبد الغفور» سوى كارنيه الهيئة الذي يؤكد الانتساب من عدمه، حيث يلجأ متسولي الصدقات إلى الظهور بملابس مطابقة لما يتسلمه عمال النظافة من الهيئة.
يتوزع عمال النظافة التابعين للهيئة فرد على كل شارع، فيما يتواجد المتسولين بكثرة في الشوارع والمناطق ذات الكثافة المرورية العالية داخل الأحياء الراقية.
لا يتسطيع عمال النظافة التعامل مع المتسولين المنسبين لمهنته لما يتعرضون له من تهديدات، خاصة أن أغلبهم من أصحاب السوابق الإجرامية والبلطجة، إلا أن بعض مشرفي العمال يبعدونهم في بعض المناطق عن النطاق المحدد لاشرافه عن طريق التهديد بإبلاغ الشرطة.
"التسول".. أمنية المنتحلين للنجاة من القانون
قسم شرطة "العجوزة" يعد الأكثر في تحرير محاضر التحري للباعة المتجولين ومنتحلي صفة عمال النظافة على حسب ماذكره مصدر أمني رفض ذكر اسمه، وتحرر المحاضر إما تسول وهو لا يعد تهديد على مهنة هؤلاء ولا يتوانوا في العودة لنفس العمل ونفس النطقة فور الإفراج عنهم.
لكن ما يمثل تحذير حقيقي عليهم هو محضر انتحال صفة ومزاولة عمل دون سند قانوني وتكتمل أركان التهمة في إرتداء زيي يحمل شارة دون وجود بطاقة هوية تؤكد عمل صاحبها أو حمل بطاقة مزيفة، وهو الأمر الذي يحول المقبوض عليه إلى النيابة ومن ثم تتطور الإجراءات إلى قضية.