جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

التشيّع فى مصر.. عيد وأكلة وجماعة وشتمة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

- ترجيحات بانتماء جمال الدين الأفغانى وعبدالرحمن الكواكبى للمذهب الشيعى
- «الإخوان» تستخدم مفردات ذات ظلال دلالية شيعية مثل الإمام والإرشاد وغيرهما


تبنت مصر - رسميًا - المذهب الشيعى ما يزيد على قرنين من الزمان (من عام ٣٥٨هـ - ٥٦٧هـ). فمنذ أن فتحها الفاطميون وحتى زوال دولتهم على يد صلاح الدين الأيوبى كانت طقوس التشيّع، تجلل المشهد المصرى من شتى نواحيه. انتهى العصر الفاطمى وعادت مصر إلى المذهب السُنى، ولكن هل بقى أثر للتشيع بين أهلها؟ بصياغة أخرى: هل العبارة الشهيرة التى تصف مصر بأنها سنية المذهب، شيعية الهوى تقدم وصفًا صادقًا لحال المصريين؟.
منذ عهد صلاح الدين الأيوبى، ظل مذهب أهل السُنة والجماعة، المذهب الرسمى للدولة المصرية، لكن ذلك لم يمنع من بروز وجه من وجوه التشيّع فى حياة المصريين، وهو وجه خفى يظل كامنًا حتى يظهر فى تجليات وممارسات محددة، يأخذ بعضها شكلًا ثقافيًا اجتماعيًا، ويأخذ بعضها الآخر شكل التأثر بالأفكار السياسية الشيعية، وهو فى كل الأحوال لا يعكس قناعة مذهبية، قدر ما يعبر عن ولع بطقوس وانحياز لأفكار. تتمدد تجليات الوجه الشيعى فى مصر، لتشمل بعض طقوس المنزل والشارع المصرى، وتتسع أيضًا لتصل إلى منصة احتفالات المصريين، لكن الجانب الأخطر فيها يرتبط ببعض الأفكار والأساليب التنظيمية التى تتبناها الجماعات المتشددة فى مصر، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وهو أمر يبدو مفسرًا إذا أخذنا فى الاعتبار أن آباء التنوير السياسى فى مصر، اعتنقوا فى أغلبهم المذهب الشيعى. فالأرجح أن اثنين من أكبر المؤثرين فى الوجدان السياسى المصرى والعربى، انتميا إلى هذا المذهب، وهما جمال الدين الأفغانى وعبدالرحمن الكواكبى. الوجه الشيعى فى مصر يجيد ارتداء قناعين، أحدهما اجتماعى والآخر سياسى، ويقدم لنا صورة للكيفية التى يؤثر فيها التاريخ فى اللحظة الحاضرة.


الوجه الشيعى يظهر خلال الاحتفال بـ«ذكرى عاشوراء» و«عيد الغدير».. وبعض شتائم الشارع مثل «ابن الرفضى»
يؤكد الكثير من المؤرخين أن غالبية المصريين لم تعتنق المذهب الإسماعيلى خلال الحقبة الفاطمية، ولم يجهر بالإيمان به سوى العناصر التى تعاونت مع الفاطميين، ممثلة فى الأقليات الأجنبية التى جاءت فى صحبتهم، ويؤكد «ابن الأثير» أن المصريين لم يكترثوا لإسقاط التشيّع فى مصر على يد صلاح الدين، ويقول إنه «لم ينتطح عنزان»، حين قرر صلاح الدين رفع الخليفة الفاطمى من خطبة الجمعة والدعاء للخليفة العباسى. هذا القول المتكرر من جانب العديد من المؤرخين، جرى مجرى الحقيقة الثابتة، رغم أن فيه نظرًا. فقد دامت الدولة الفاطمية فى مصر لما يزيد على قرنين من الزمان. ومن السذاجة أن نتصور أن من السهل على أجيال ولدت ونشأت فى ظل جو ومناخ التشيّع، أن تعاند وتخرج على معطيات الثقافة السائدة، ويستغرب المحلل أكثر وهو يرى أن التأثيرات الثقافية للدولة الفاطمية، ما زالت باقية فى الطقوس والعادات والتقاليد المصرية حتى يوم الناس هذا، وهى تكاد تكون - وخصوصًا الطقوس الرمضانية - عابرة للأجيال.
قد يقول قائل إن تواصل واستمرارية الطقوس الفاطمية أمر، واستمرار بعض الأفكار الشيعية لدى بعض المصريين أمر آخر، فقد احتفظ المصريون بـ«التفطم» إذا صح التعبير، لكنهم لم يقبلوا بفكرة التشيّع طيلة قرنين من الزمان، ومن تشيع منهم حينذاك خلع عن نفسه الرداء الإسماعيلى، بمجرد نجاح صلاح الدين فى إسقاط الدولة الفاطمية. هذا الكلام مردود عليه من أكثر من زاوية. من بينها ما تسجله الذاكرة المصرية من النظر إلى يوم الغدير كعيد، فحتى فترة السبعينيات من القرن الماضى، كانت «الأجندات السنوية» فى مصر تسجله كأحد الأعياد التى يحتفل بها المصريون. وعيد الغدير واحد من أبرز الأعياد التى يحتفل بها الشيعة، إحياءً لذكرى «حديث غدير خم» الذى يزعمون أنه يحمل وصية من النبى بأن يلى الحكم من بعده على بن أبى طالب.
قد يكون من المفيد فى هذا السياق، أن نراجع بعض المعلومات التى وردت فى الدراسة التى أعدها «صالح الوردانى» تحت عنوان: «الشيعة فى مصر». ويشير فيها الكاتب إلى أن مصر احتفظت ببعض الأفكار والممارسات المرتبطة بالتشيّع بعد إنهاء الحقبة الشيعية، وما زالت هذه الأفكار والممارسات تظهر فى حياة المصريين فى بعض الأحيان. من بينها: الحركة الصوفية التى عكست فى بداية ظهورها بعد انهيار الدولة الفاطمية تطبيقًا لمبدأ «التقية»، فقد تذرع المصريون بالتصوف، من أجل الهروب من بطش صلاح الدين بالشيعة، فأظهروا «التسنن» رغم أنهم يضمرون التشيّع، وبمرور الوقت تحول «التسنن» من مجرد ادعاء إلى حقيقة على يد الأبناء والأحفاد. وهناك تجمع الأشراف فى مصر الذين يرون أنهم ينتسبون إلى ذرية على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويطلق على نقابة الأشراف «نقابة الطالبيين»، ومن نسل الأشراف جاء الزعيم أحمد عرابى الذى قاد الثورة العرابية فى مصر. وهناك الاحتفالات التى عرفتها مصر فى الحقبة الشيعية، مثل الاحتفال بذكرى عاشوراء، وليلة النصف من شعبان، ورأس السنة الهجرية، ومن اللافت أن عادة الإساءة إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وعائشة، أم المؤمنين، رضى الله عنها، ما زالت قائمة فى مصر حتى اليوم «يقول أحدهم أو إحداهن: نعم يا عمر.. أو يقول: مش هسيبك إلا لما تقول أنا عيشة»، وهى مقابل لسب سنى للشيعة ظهر فى العصر الأيوبى تحمله عبارة «يا ابن الرفضى»، إذ يطلق على الشيعة «الروافض».
ورغم كل المؤشرات السابقة، إلا أنه من الصعوبة بمكان أن نقول إن المذهب الشيعى له وجود حقيقى بمصر، ولا بد من التفرقة فى هذا السياق بين أمرين، أولهما محبة المصريين لأهل البيت، وهى ممارسة وتقليد يرتبط بالمسلمين كافة، ربما كان الأمر أكثر توهجًا لدى المصريين بحكم تاريخ أهل البيت ووجودهم إلى جوارهم عبر فترة زمنية طويلة، لكن ذلك لا يعنى بحال تبنى مجموعة الثوابت الفقهية التى يمتاز بها المذهب الشيعى، مثل الاعتقاد فى الأئمة وعصمتهم، وتبنى موقف سلبى من الشيخين أبى بكر وعمر، ويبدو الأمر عكس ذلك تمامًا، فالمصريون المحبون لأهل البيت، يرون فى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، نموذجًا للحاكم العادل، وما أكثر ما يستدعون حكايات عدله، الصحيح منها والملفق. أما تمسك المصريين ببعض الطقوس الموروثة عن العصر الفاطمى، والتى يظهر فيها النفس الشيعى، فيظهر كجزء من تركيبة الشخصية المصرية المحبة للحياة، وكثيرًا ما تعبر عن هذه المحبة بالاحتفاء والولع بطقوس البهجة!. فى تقديرى أن الأمر الأخطر فى تأثر المصريين بالتشيّع يرتبط بالفكر السياسى لأصحاب هذا المذهب، والذى تسربت العديد من أفكاره إلى الوجدان والعقل السياسى لبعض جماعات الإسلام السياسى فى مصر وخارج مصر.

الأفغانى والكواكبى مثّلا الجسر الذى عبرت عليه الأفكار السياسية الشيعية إلى العالم السُّنى
هناك خلاف واضح بين السنة والشيعة، فيما يتعلق بمسألة التمرد على الحكام. فالشيعة يقيمون الاعتبار لأئمتهم، لكنهم لا يتوانون عن التمرد على من يناوئهم الرأى أو الفكر أو يعتقدون فيه الظلم للرعية، فقد ثار الحسين بن على ضد يزيد بن معاوية، مدفوعًا بالنظر إليه كحاكم ظالم لا يعدل بين المسلمين، ولا يمنحهم حقهم فى اختيار خليفتهم، طبقًا لمبدأ الشورى الذى نص عليه القرآن الكريم. وانتفض من بعده المختار بن أبى عبيدالله، ثم محمد «النفس الزكية»، وتكررت ثورات الشيعة ضد الحكام عبر التاريخ. وعلى النقيض منهم، وقف فقهاء أهل السنة بشكل حاسم وصارم ضد فكرة الثورة على الحاكم، حتى ولو كان ظالمًا، قناعة منهم بأن الثورة وما سيترتب عليها من قتل وفوضى، قد تكون أشر على الرعية من مسألة الصبر على الحاكم الظالم، وقد تأسس هذا الفقه فى العصر الأموى واستوى على عوده تمامًا فى العصر العباسى.
ومع نشأة الدولة العثمانية، وتسلطها على الكثير من الدول العربية والإسلامية، تراجع الوجه الدينى «المذهبى» للصراع ضد الحكام، وبدأ الوجه السياسى فى الظهور، مدفوعًا بخبرة كل داعية من دعاة الثورة بالمذهب الدينى الذى ينتمى إليه، سُنيًا كان أو شيعيًا. فى هذا السياق بدأت الأفكار السياسية التى تعكس خبرات مذهبية شيعية فى التسرب إلى العالم الإسلامى السنى، وكان أبرز داعيتين لتثوير العالم الإسلامى هما: السيد جمال الدين الأفغانى وعبدالرحمن الكواكبى، وكلاهما كان شيعيًا كما ترجح العديد من الروايات التاريخية. أنت تعرف الدور الذى لعبه جمال الدين الأفغانى فى تربية الطليعة المثقفة التى ثارت على الخديو توفيق فى مصر، كذلك لا نستطيع أن ننفى الدور الذى لعبته كتابات عبدالرحمن الكواكبى، وخصوصًا كتابيه: «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» فى تغذية الوجدان الثورى لدى الكثيرين ودفعهم إلى التمرد على الأوضاع الاستبدادية الظالمة التى يعيشون فيها.
وقد شهدت الثورة العرابية موقفًا مدهشًا، يعكس بجلاء تلك المفارقة بين الفكر السياسى الشيعى الذى لا يجد غضاضة فى الثورة على الحكام والفكر السُنى الذى يوجب طاعة الحاكم حتى ولو كان ظالمًا. فعندما أخذ الزعيم «أحمد عرابى» - وهو من الأشراف كما ذكرت لك - يعد العُدة لمواجهة الإنجليز فى معركة «التل الكبير»، إذا بمنشور موقع من السلطان العثمانى «خليفة المسلمين»، يوزع على الجنود والأهالى يقول بـ«عصيان عرابى»، بمعنى أن عرابى أصبح «خارجيًا» أبق عن طاعة الخليفة، ومن ينحاز إليه يصبح خارجيًا مثله يرفض طاعة ولى نعم المسلمين!. وكانت النتيجة أن انفض الجنود والأهالى من حوله، بسبب تجذر الفكر السنى الذى يحض على طاعة الحاكم فى وجدانهم. استعاد هذا المشهد من جديد فكرة البغى على الحاكم، والحد الشرعى الذى يجب أن يطبق على الباغى، وهو حد القتل. وربما كانت هذه التجربة المريرة أحد الأسباب التى دفعت الشيخ «محمد عبده» - أحد شركاء الثورة العرابية - إلى مراجعة أفكاره، وبدأ ينهج نهجًا مختلفًا فى التغيير السياسى، ابتعد فيه عن فكرة الثورة، وأعلى فيه من فكرة التربية. فقد آمن محمد عبده بضرورة وجود مؤسسة قادرة على إصلاح الواقع داخل الدول الإسلامية، أطلق عليها «مدرسة الزعماء» لتخريج المصلحين والقادة ممن يحملون عبء الإصلاح فى كل بلد من بلاد الشرق، وهذا الرأى أسخط عليه السيد جمال الدين الأفغانى الذى لا يعرف الإبطاء سبيلًا من سبل الإصلاح والتجديد. فقال لتلميذه يومئذ «إنك لمثبط». كان «الأفغانى» مدفوعًا فى غضبه بتراثه السياسى الشيعى، فى حين كان «محمد عبده» متأثرًا بتركيبته السياسية السنية التى دفعته إلى العودة إلى فكرة التربية والإصلاح. ومن المنطقى أن نقول إن الإمام محمد عبده، اختار الطريق الأصعب والأضمن فى ذات الوقت لإصلاح الشعب، من خلال إعطاء الأولوية للعمل التربوى والثقافى للأمة، بدلًا من الاهتمام بالدعاية السياسية، لكن أيًا من التنظيمات السياسية التى تبلورت عقب غيابه عن ساحة التاريخ فى مصر، لم تتلقف هذه الأفكار وتحاول ترجمتها فى الواقع بصورة فاعلة أو تتسق مع التصور الذى طرحه الشيخ محمد عبده. وقد دعم هذه الرؤية القائمة على فكرة «الإصلاح التربوى» واحد من كبار تلاميذ محمد عبده، وهو الشيخ رشيد رضا الذى توسع نظريًا فى شرح وتناول هذه الفكرة من خلال إصداره صحيفة «المنار»، بالإضافة إلى الكتابة فى الصحف الأخرى ليسهم فى بلورة فكرة ولدت فيما بعد فكرة أخطر.. وهى فكرة الإسلام الصحوى.

قاموس «الإخوان» يشتمل على الكثير من المفردات الشيعية.. والجماعة حريصة على تقوية علاقتها بإيران
كان الشيخ رشيد رضا، من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وهو فى ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده فى أهمية هذا الميدان، ويرى أن سعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها، خلافًا للشيخ جمال الدين الأفغانى - شيعى التوجه - الذى لم ير للثورة بديلًا. وحدد «رشيد رضا» العلوم التى يجب إدخالها فى ميدان التربية والتعليم لإصلاح شئون الناس، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان. ولم يكتف بدور الموجّه والناصح، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه، وحاول تطبيق ما يراه محققًا للآمال، فأنشأ مدرسة «دار الدعوة والإرشاد» لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامى ودعم الخلافة الإسلامية، وجاء فى مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما يحتاجون إليه من مسكن وغذاء، وأنها ستعتنى بتربية طلابها على التمسك بآداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث، فلا خير فى علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع، وأن المدرسة لا تشتغل بالسياسة، وسيُرسَل الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية.
واللافت للنظر فى المشروع الذى تبناه الشيخ «رشيد رضا»، أنه اشتمل على عدد من الأفكار والمصطلحات التى راجت داخل جماعة الإخوان المسلمين، مثل فكرة الدعوة إلى الله، وعالمية الدعوة، واستحضار فكرة الخلافة الإسلامية، بالإضافة إلى ظهور مفردة «إرشاد»، وهى تلك المفردة التى تأسس عليها «مكتب الإرشاد» الذى يمثل ما يشبه مجلس إدارة الجماعة. فى ضوء ذلك يمكن القول إن الشيخ رشيد رضا، أحدث نقلة فى المفاهيم التى اعتمد عليها الخطاب الإصلاحى للشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوى وغيرهما، وخصوصًا فيما يتصل بالعودة إلى مفهوم الخلافة الإسلامية والنكوص على فكرة الدولة الوطنية التى طالب الإصلاحيون المحافظون بإيجادها وتقويتها، حتى تستطيع مواجهة الأطماع الاستعمارية، الأمر الذى يعنى أن الشيخ رشيد رضا مهّد لصعود خطاب سياسى جديد، ارتد عن مجمل التراث النهضوى فى المسألة السياسية، وكان مرجعًا له، وهو: الخطاب الإسلامى الصحوى الذى خلط بين قناعات فقهية سنية وتوجهات سياسية شيعية، ويمثل كتاب «الخلافة أو الإمامة العظمى» للشيخ «رشيد»، الرافد الأساسى لفكر ما بات يعرف لدى مؤرخى الفكر، باسم الصحوة الإسلامية. وقد وجدت هذه الأفكار صداها لدى الشيخ حسن البنا، خصوصًا فكرة الدولة الإسلامية فى مقابل الدولة الحديثة، وفكرة الترجمة الحركية لأفكار خطاب «الإصلاح التربوى» من خلال تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، التى اعتمدت على منهج التربية الذى نوه إليه وسلط الضوء عليه الشيخ محمد عبده، لكنها طبقت هذا المنهج بمحتوى موضوعى يستمد روافده من أفكار وكتابات الشيخ رشيد رضا.
كان الشيخ رشيد رضا بالذات، هو الباب الفكرى الذى ولج منه خطاب الجماعات إلى الميدان عبر تلميذه حسن البنا، من خلال الجماعة التى أسسها، ووضع على قمة أهدافها الدفاع عن قضية «الخلافة»، ولم يفلح الشيخ على عبدالرازق، فى هز هذه الفكرة فى بحثه الرصين «الإسلام وأصول الحكم»، ولعل السر فى ذلك هو السمت «الشعبوى» الذى أكسبه «البنا» للفكرة، مستلهمًا فى ذلك التراث الشيعى للعمل السرى الذى يخلب عقل الشباب، والاغتيالات السياسية التى ارتبطت بتاريخ شيخ الجبل «حسن الصباح»، ولم يفلت منه أيضًا تعليم مريديه مبدأ «التقية»، وهو مبدأ سياسى شيعى أصيل، بالإضافة إلى استخدام مفردات ذات ظلال دلالية شيعية مثل «الإمام» و«الإرشاد» وغيرهما. والتاريخ يسجل أن جماعة الإخوان المسلمين دعت «نواب صفوى» الثورى الإيرانى المعروف ومؤسس حركة «فدائيان إسلام» لزيارة مصر عام ١٩٥٤، وقوبل الرجل بحماس شديد وترحيب حار من قبل الإخوان المسلمين الذين أرادوا توطيد علاقتهم بهذه الحركة الشيعية الإيرانية المناهضة للشاه فى الخمسينيات. ويقول أحد قياديى الإخوان المسلمين: «وصل إلى القاهرة فى زيارة لجماعة الإخوان المسلمين الزعيم الإسلامى نواب صفوى زعيم فدائيان إسلام بإيران، وقد احتفل بمقدمه الإخوان أعظم احتفال، وقام بإلقاء حديث الثلاثاء، فحلق بالإخوان فى سماء الدعوة الإسلامية وطاف بهم مع الملأ الأعلى، وكان يردد معهم شعار الإخوان: الله أكبر».