جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المنايفة.. التعليم سر القوة


وقفت القوة التى يتمتع بها «المنايفة»، والمستوى الكبير، فى السلطة والفكر، سؤالًا يحتاج إلى إجابة علمية وموضوعية، بعد أن كان منهم أربعة رؤساء جمهورية، أحدثهم الرئيس عبدالفتاح السيسى، وستة رؤساء حكومة، وأكثر من ستين وزيرًا وقائدًا عسكريًا، بينهم وزير الدفاع الحالى، الفريق أول صدقى صبحى، إلى جانب شخصيات عديدة، فى دائرة السلطة العليا فى الدولة، وعلماء الأزهر والعالم الدكتور مصطفى محمود.
حتى أصوات السماء، شيوخ دولة التلاوة، كان لمحافظة المنوفية منهم نصيب كبير.. وهو نفس السؤال الذى طرحته مجلة «فورين بوليسى»، حول كلمة السر التى جعلت «المنايفة» عند هذا المستوى الكبير، فى السلطة والفكر والجيش والحكومة.. وكانت الإجابة، كلمة واحدة: التعليم.. فمنذ أن جاء الإنجليز إلى مصر، فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، حتى عمدوا إلى القضاء على كثير من قوة الدولة التى بناها محمد على باشا، ومن بعده الخديو إسماعيل، ومن أبرزها القضاء على التعليم، باعتباره معولًا فعالًا للهدم والنكوص إلى الوراء، وكانت المحافظة الوحيدة التى واجهت الإنجليز، واستمرت فى مسيرة التعليم، هى محافظة المنوفية، التى أرادت أن تكون أقوى من المحتل البريطانى، بالتعليم.. إذ أسس الرجل العظيم، عبدالعزيز باشا فهمى، جمعية المساعى المشكورة، التى أنشأت «مدارس المساعى»، وأقنع الباشوات وكبار الأغنياء، بالتبرع لدعم التعليم فى المنوفية، واستمرت المسيرة التى مثّلت الإجابة عن الأسئلة المهمة التالية:
لماذا جاء «المنايفة» على هذا التميز، فى السلطة والجيش والحكومة والفكر؟.. وكان التعليم الجيد وتراجع نسبة الأمية، هو الجواب على تميز أبناء المحافظة الذين قادوا منذ مائة عام، عملية عظيمة، تبرع فيها الأغنياء، من أجل تعليم الفقراء والبسطاء فى المحافظة.. فإذا ما برز السؤال الثانى: لماذا يُحب «المنايفة» الانضمام إلى القوات المسلحة؟ يأتى الجواب أيضًا بـ«التعليم»، الذى رسخ عندهم فكرة الدولة والمؤسسات، وسلم كل جيل أمانة ذلك إلى الجيل الذى يليه، عندما صارت «البدلة» العسكرية مثار فخر وعزة عند الشباب، الذى تاق إلى أن يحذو حذو من سبقهم.. وتكون إجابة سؤال: كيف صنع «المنايفة» هذا التميز؟، هى أن الوصول إلى السلطة وأن معيار التمكن من القرار، فى أكثر من دائرة، إنما هو نتيجة طبيعية للتعليم والخبرات الحقيقية فى الحياة، تدعمها المنافسة على التعليم الموجودة بين أبناء المحافظة.
لقد عشت زمنًا طويلًا، لم أفهم ما كانت تقوم به أمى، عندما كنت فى مراحل الدراسة الأولى، ببلدتنا منوف، فى محافظة المنوفية.. حينما كانت تستيقظ عند أذان الفجر، تعد لى طعام الإفطار، وتجهز ملابسى، قبل أن توقظنى عند السادسة صباحًا، وقد أتمت تجهيز كل شىء، وراحت تمسك بـ«كُم» جلبابها، تُزيل به الغبار الذى علق بحذائى، لتجعله أسود لامعًا، يتسق مع كواء الملابس الذى انتهت منه قبل قليل.. لم يكن عند أمى ما تُعطيه لنا، غير حنان فطرى، لامرأة لم تنل قسطًا من التعليم، وحزم، تمارسه معنا، عوضًا عن الأب الذى يغيب فى القاهرة لشهر، إلا أسبوعًا يقضيه بيننا، قبل أن يرحل عنا مرة أخرى، وهو لا يعلم من أمرنا أى شىء، حتى إنه لا يعرف سنوات الدراسة التى نحن بها.. ولم تمتلك أمى إلا نصيحة صباحية لنا، وهى تودعنا عند باب الدار، بضرورة الحرص على حضور كل الحصص، وضرورة الاستماع إلى مُدرسينا، وحسن معاملة زملائنا، حتى يكون التعليم سلاحًا فى أيدينا، يحمينا من شر الزمان وغائلة الأيام.. نصيحة لم أُدرك مغزاها إلا حينما كبرت، والتحقت بكلية الإعلام فى جامعة القاهرة، بعد أن تخرجت فى الثانوية العامة، الأول على محافظتى، بالقسم الأدبى.
لم أكن أدرك أن التعليم، هو الميراث الكبير والوحيد الذى يمكن أن تتركه لى هذه السيدة، بعد أن خلت يداها من أى شىء يمكن أن تعطيه لى، من مال أو عقارات أو منقولات، أو غيرها مما يمكن أن يرثه الابن عن والديه.. شأنها فى ذلك شأن الكثيرين من قاطنى هذه المحافظة بالذات، التى أدى استغلاقها، وخلوها من وجود ظهير صحراوى لها، إلى محدودية الرقعة الزراعية، مع كثرة عدد سكانها، ما دفع رب الأسرة، الذى يعول أكثر من ابن وابنة، إلى أن يكتفى بأحدهم، وعادة ما يكون أكبرهم، رفيقًا له فى فِلاحة الأرض، ويدفع الباقى نحو التعليم الجيد، ليكون سلاحهم فى مواجهة الحياة.. شىء بالفطرة داخَل هؤلاء الناس وهيكل سلوكياتهم، ووطّن فى يقينهم أن التعليم على نفس القدر من قيمة الأرض، أو أنه لولا العلم ما كانت الأرض.
ولم يترك الإنجليز «المنايفة» فى حالهم، إذ كان من الضرورى تشويه صورة هذا الشعب الذى كسر احتلالهم، وواجه مخططهم لهدم التعليم، وجعلهم مجتمعًا غير متعلم، فكانت حادثة دنشواى الشهيرة، التى ظنت سلطات الاحتلال أن «المنايفة» يمكن أن يتعاونوا معهم، بدافع الخوف من أعواد المشانق التى نصبوها لبعض مواطنيهم، إلا أنهم فوجئوا أن هؤلاء الناس، هم حائط الصد الصُلب فى مواجهة الاحتلال.. ومن هنا جاءت بعض الدعايات والشائعات، والأمثلة غير الكريمة عن شعب المنوفية، من أمثال «المنوفى لا يلوفى، ولو أكلته لحم كتوفى»، و«إذا أخذت من الخروف صوف، تأخذ من المنوفى معروف»!.. ولا يزال التعليم يمثل الأساس المتين والمهم جدًا لأبناء المنوفية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين