جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«فهمى».. والتاجر الأكبر


أنا بالتأكيد أعرف ««فهمى»» وقد استوثقت بنفسى من قصته التى سأرويها لك، ولك بعد ذلك أن تحكم عليه أو له.. يُحكى أن «فهمى» كان وهو يرتقى فى مدارج الصبا مهذباً دمث الخلق صموتاً مطيعاً، وقد جعلته هذه الصفات محل إعجاب من مدرسيه وموضع فخر لوالديه، ومع ذلك فإن شيئاً واحداً كان يعيب «فهمى» وهو إفراطه فى أكل الحلويات، لم يكن يأكلها بشكل عادى لكنه كان يلتهمها التهاماً كأن الله خلقه من أجلها وخلقها من أجله... وفى بداية التحاقه بالجامعة تعرف على زميل بنفس كليته يسبقه بعامين، وتوطدت بينهما أواصر الصداقة والمحبة، حتى حدث ما لم يكن فى الحسبان. فذات يوم قدم «الزميل» لـ«فهمى» هدية صغيرة عبارة عن قطعة من الشيكولاتة ذات المذاق الخاص، وحين تذوقها «فهمى» أدرك أنها شيكولاتة عالمية لا يمكن أن تكون محلية الصنع فكان أن وقع فى غرامها من أول «قضمة»، وأصبحت قطعة الشيكولاتة هذه هى الهدية التى يقدمها «الزميل» يومياً لـ«فهمى»، و«فهمى» من فرط حبه للحلوى لم يفطن إلى أن تغير طعم هذه الشيكولاتة عن الشيكولاتة المصرية التى تعوّد عليها لا يعود إلى التميز، لكنه يعود إلى اختلاف غريب يحسبه الغافل تميزاً ويدرك العارفون ببواطن الأمور حقيقته، وشيئاً فشيئاً بدأ «فهمى» يشعر بسعادة غامرة بعد أن يأكل قطعة الشيكولاتة المهداة له، كان قلبه يقفز فرحاً وهو يدخل فى عالم خيالى لا وجود له فى الحقيقة، فيتخيل نفسه فى دنيا شديدة الاتساع تحفها الأشجار، وتصطف الحور العين فى طابور منمق لاستقباله والارتماء فى أحضانه، وعندما كان «فهمى» يعود إلى الواقع يصطدم بدنياه الضيقة الظالمة التى لا قبل له بمواجهة متطلباتها، ولو فكر «فهمى» قليلاً لكان قد اتقى عالماً غريباً لم يرد فى باله أبداً أن يدخله أو يلج فى طريقه. وبعد أيام من تعوده على أكل الشيكولاتة اللذيذة بدأ «فهمى» يعرف أنه ليس وحده الذى يأكلها، إذ كان قد تعرف على مجموعة من أصدقاء زميله قاموا فيما بينهم بتشكيل رابطة لتشجيع أكل الشيكولاتة العالمية، إلا أنهم كانوا لا يقبلون عضوية أى شخص، بل كانوا هم الذين يسعون إلى أنماط من الطلبة يبدو من محياها أنها تحب الشيكولاتة حباً جماً فيدخلونهم إلى عالمهم.

لعلكم الآن عرفتم أن الشيكولاتة لذيذة الطعم لم تكن شيكولاتة عادية، لكنها كانت محشوة بخلطة مدروسة من المخدرات التى تستلب العقول، وبسببها تمت مصادرة عقل «فهمى» وأصحابه لمصلحة التاجر الأكبر الذى يحتكر تصنيع وبيع هذه الشيكولاتة، كان «فهمى» مجنيّاً عليه إلا أنه صار عبداً من عبيد التاجر الأكبر وما ظن أبداً أنه عبد بل عاش على وهم أنه يصنع لنفسه من هذه الشيكولاتة عالماً من السعادة الغامرة التى لا يمكن لأحد أن يحصل عليها إلا إذا كان من أتباع هذا التاجر، هم وحدهم أصحاب السعادة، هم وحدهم أفضل البشر.

رأى «فهمى» أثناء رحلته مع التاجر الأكبر أكابر القوم وهم يذهبون إليه يرجون رضاه عنهم، رأى الساسة والإعلاميين والأدباء والمفكرين ورجال الاقتصاد وهم يحجون إلى مقر التاجر الأكبر، فيفرق عليهم قدراً من الشيكولاتة الساحرة، رأى «فهمى» نقيب الصحفيين وهو يقبل يد التاجر الأكبر، ورأى نقيب الأطباء يفعل الأمر نفسه، ووقف فى الصف نفسه بجوار نقيب المهندسين الذى جاء يصلى الظهر خلف التاجر الأكبر، وشاهد حسنى مبارك عندما كان نائباً لرئيس الجمهورية وهو يذهب للتاجر الأكبر ليتفق معه على أمور بعينها، كانت الدنيا كلها تحج للتاجر الأكبر، والتاجر الأكبر يزداد ثراءً وتوحشاً حتى أصبح أتباعه يسدون عين الشمس من كثرتهم، وبدأ الفأر يلعب فى «عب» «فهمى»، ما الذى يحدث؟ ولماذا تقف الدولة فى الظاهر ضد التاجر الأكبر وأتباعه وهى تتفق معهم فى الظل ومن وراء الستار؟ ولماذا يقوم التاجر الأكبر بالظهور فى مظهر المُعارض للنظام وهو فى الوقت ذاته يرتب معهم كل خطوة يتحركها؟! كانت التبريرات جاهزة فى الرفوف التى صنعها «فهمى» فى عقله، وما إن يبدأ فى السؤال حتى يقفز التبرير من أحد الرفوف ليستقر فى أدراج «الاقتناع» الموضوعة فى مكان ظاهر بعقله، وعندما علم أن الشيكولاتة مخلوطة بالمخدرات أخذ يبحث عن أعذار، فلعلها تجعلها طيبة المذاق، أو لعلها تجعل إقبال الناس عليها كبيراً، ولعلها... ولعلها... ظل «فهمى» على هذا زمناً طويلاً وكأنه كان يعيش فى غيبوبة.

شب «فهمى» عن الطوق ومرت عليه عقود الشباب وأصبح رجلاً مكتمل الرجولة، وفى تلك السن التى يهب الله فيها الحكمة لمن يشاء من عباده فهم «فهمى»، عرف أن المنتج الجيد لا يمكن أن يختلط بآخر فاسد وإلا أفسده، لكنه للأسف كان قد أدمن المنتج الفاسد. لا عليكم، فـ«فهمى» كان رجلاً قوى الإرادة، قاوم الإدمان وعاقب نفسه كما لم يعاقب نفسه أحد، قضى الليالى وهو يبكى على الأيام التى أنفقها وهو يروّج للمنتج الفاسد، عض بنان الندم على الأيام التى أدخل فيها شباباً غضاً خالى البال إلى منظمته، لكن هل يكفى الندم؟! ابتعث الله فى نفس «فهمى» إرادة جبارة ساعدته على ترك التاجر الأكبر وتجارته، وقد ساعدته هذه الإرادة على الشفاء من الإدمان الذى كان قد وقع فيه، والحق أن بعض أصدقاء «فهمى» فى مجتمعنا الكبير ساعدوه على أن يجتاز رحلة الشفاء، ومن خلالهم أصبحت عزيمته قوية صلبة، وكان إيمانه بالله هو الذى جعله يخوض حرباً تشيب من أهوالها الولدان، فخرج على المجتمع يحذر من التاجر الأكبر، والنخب فى معظمها تنظر إليه نظرة تكذيب، يقول بعضهم: مسكين لقد كان فى قلبه موجدة من التاجر فانقلب عليه، واستقبل التاجر الأكبر انقلاب رجله عليه باستخفاف: من هذا الذى لا يكاد يُبين، ألم نُرَبّك فينا صغيراً. وظل «فهمى» على موقفه الكاشف لجرائم التاجر الأكبر وأتباعه، وعلى مدار خمسة عشر عاماً و«فهمى» فيها لا يكل ولا يمل، كشف كل أوراق التاجر، وسلط الضوء على خبيئة نفسه الإجرامية، كتب ثلاثمائة وخمسة عشر مقالاً فى كل صحف بلاده وبعض الصحف العربية، خرج فى مائتين وعشرين حلقة تليفزيونية يخبر فيها الناس بأسرار معبد التاجر الأكبر، تلك الأسرار التى حملت فى جرابها كل الشر، وكتب العديد من الكتب عن تاجر الشيكولاتة المخدرة، ومن خلاله عرف الناس كل شىء، واتبعه بعدها بعض الزملاء القدامى حيث خرجوا بدورهم من حقيبة التاجر الأكبر ووقفوا مع «فهمى» فى حربهم ضد الشيكولاتة المخدرة، ولن أحكى لكم عما نال «فهمى» من تهديدات وترويع واغتيال معنوى، وقد يخرج من داره ذات يوم فيرديه أحدهم بسلاحه، ومع ذلك وبعد كل هذا يقول بعض الذين كانوا يقبلون يد التاجر الأكبر ولم يعرفوا أسراره إلا من «فهمى»: «فهمى» لا يزال يعمل فى مصلحة التاجر الأكبر! هذه قصة «فهمى» وكل «فهمى» ثار على الخطأ والخطيئة، فهل تحكمون له أم عليه؟ ومن هم الذين يعملون مع التاجر الأكبر.. «فهمى» أم الذين يحاربون «فهمى»؟.