رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسطورة الجزية «٢-٢»


... وعلى منوال الأفكار التى توارثوها من أمم سابقة، بل إن واقع العالم وقتئذ كان له الدور الأكبر فى فهم القدماء للقرآن، وعلى مدار قرون ظللنا نعيش أسرى فهم هؤلاء القدماء للدين مع تغير الأزمان والأحوال، ومع استمرار تأخر الأمة وتراجعها الحضارى أصبح فهم القدماء فى ضميرنا هو الفهم المثالى، وأصبحت دولتهم هى «يوتوبيا» الفاضلة المثالية، وبذلك تم تجميد عقل المسلم وجعله أسيراً لعقول ناس ماتوا منذ قرون طويلة! فكان أن نشأت الظواهر «المتأسلمة» التى تعيش بيننا بعقليات «ماضوية» سلفية بامتياز، وكانت المفارقة أننا حينما نحاول إحياء فهم جديد للإسلام إذا بالمجددين من أصحاب المدرسة الماضوية التى ترفع شعار نحن دولة مدنية حديثة بمرجعية إسلامية، يعيدون ذات الفهم ولكن بألفاظ حديثة، فكانوا كأنهم يقدمون لنا نفس القديم ولكن بثياب جديدة.

ورغم أننا نحمل التقدير ـ لا التقديس ـ للسادة القدماء صحابة كانوا أو تابعين، إلا أننا يجب أن نتعامل مع أفهامهم للدين وتطبيقاتهم له على أنها نماذج لتطبيق بشرى يرد عليه الخطأ والصواب، وفى طريقتنا نحن لإحياء فهم جديد للدين رأينا أن نضبط الألفاظ والكلمات على اللسان القرآني، فاكتشفنا أن الله تحدث عن فئات من أتباع الكتب السماوية، هم أهل الكتاب، والذين آتيناهم الكتاب، والذين أوتوا الكتاب، والذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ثم اكتشفنا بعد ذلك أن آية الجزية لم تفرض على أهل الكتاب وهم عموم أتباع الأديان السماوية، ولم تفرض أيضا على «الذين آتيناهم الكتاب» ولم تفرض على «الذين أوتوا نصيباً من الكتاب» ولكنها فرضت فقط على «الذين أوتوا الكتاب» كما أنها لم تفرض عليهم جميعاً ولكنها فُرضت على فريق منهم وفقا لما جاء بالآية الكريمة «من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عند يد وهم صاغرون» وحرف «مِن» هنا للتبعيض، أما أسباب نزول سورة «التوبة» فهو أن أمة الغساسنة التى كانت تتولى حكم الشام بالنيابة عن الروم كانت تدين بالمسيحية اليعقوبية، ثم قامت بشن حروب وغارات على الجزيرة العربية، وقتلت من قتلت، وكانت حرب تبوك التى نزلت سورة التوبة بمناسبتها حربا تستهدف إجلاء العدو الغازى عن البلاد، وطرده من مدينة تبوك شمال الجزيرة العربية، ولذلك لم يكن سبب القتال هو إدخال هؤلاء إلى الإسلام، فالدين كما قلنا ليس فيه إكراه، ولكنها حرب تظل جذوتها مشتعلة إلى أن يتم طرد الغساسنة الغزاة، بحيث يكون الغساسنة فيها صاغرين أذلاء مجبرين على دفع جزية، والجزية من الجزاء، وهى غرامة تضمن عدم معاودتهم التعدى مرة أخرى، ولكن فى هذه الحرب هرب الغساسنة وعادوا إلى ديارهم قبل أن يصل لهم جيش المسلمين، فعاد الرسول صلى الله عليه وسلم منتصراً، إلا أن الدارس يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتتبع الغساسنة إلى ديارهم فى الشام، بل عاد إلى المدينة منتصراً فى حرب لم تسفك فيها دماء، وكان آخر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن جهز جيش أسامة بن زيد ليستكمل تأديب الغزاة، وقال له : «وطئ بجيشك أرض الشام ثم عد» ثم توفى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن ما الذى حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قامت دولة الخلافة الراشدة، وأصبح الصحابة رضوان الله عليهم هم أصحاب الحكم، وقام سيدنا أبو بكر ومن جاء بعده من الخلفاء بإنشاء جيوش الفتوحات، وفى ظل الخلافة تم فتح بلاد الشام والعراق والقوقاز ومصر وليبيا وتونس وبلاد فارس وهكذا دواليك، ثم تم فرض الجزية على أهل البلاد المفتوحة! وفقاً للقواعد التى وضعوها للجزية، وفى علوم القدماء قالوا إن الذى يسلم تسقط عنه الجزية! فكان فرض هذا المبلغ المالى يحمل شبهة إكراه تجبر المواطن المصرى أو الشامى والعراقى على الدخول فى الإسلام حتى يتجنب دفع الجزية، وهذا ما يخالف صريح القرآن الكريم الذى قال «لا إكراه فى الدين» والذى اعتبر أن إلحاح الرسول صلى الله عليه وسلم على الكفار حتى يسلموا هو الإكراه بعينه «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».

ومن الغريب أنه تم تلبيس الجزية التى كانت غرامة على قوم بأعينهم، ثوب الدين، فقالوا إن الجزية إنما فرضت لأن جيش المسلمين سيحمى أهل هذه البلد، وهذا المبلغ هو مقابل الحماية! طيب يا سادة يا كرام من ذا الذى طلب منا أن ندخل إلى بلاد الناس فنحتلها ثم نفرض على أهلها غرامة ثم نقول إن هذه الغرامة لحمايتهم! لماذا دخلت جيوش المسلمين أصلاً إلى هذه البلاد؟! والإجابة التى عندهم هى: لينشروا الإسلام، ألم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ولكننا لا يمكن أن نقبل صحة هذا الحديث لأننا إن عرضناه على القرآن وجدناه يخالفه مخالفة صريحة فـ «لا إكراه فى الدين»،فإذا بهم يقولون يا أخى إننا لن نقاتل كل الناس، ولكننا سنقاتل فئة من الناس تمنعنا من الدعوة لله، هذا عظيم، فطالما حاربنا من يمنعنا من الدعوة، لماذا فرضنا غرامة على من لا يمنعنا؟! لنحميهم، ممن؟ من الذين يمنعونا!! تخيل يا صديقى أننا فى دنيا أخرى، وأنك تعيش فى بلادك فى ظل نظام حكم تقبله أو ترفضه، وإذا بدولة أخرى تغير عليكم وتحتل بلادكم لتنشر دينها، ثم تفرض غرامة على من لم يتبع دينها، ثم تقول لك إن سبب هذه الغرامة هو أنها ستحميك من الدول الأخرى! أيحتاج الحق إلى ذلك؟!.

الله سبحانه طلب منا أن نتعامل مع أهل الكتاب بطريقة أخرى غير الطريقة التى فعلها القدماء، حيث قال لنا « لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» ثم طلب منا أن نجادلهم فقط للدعوة، فقال «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» أى أن الجدال نفسه يجب أن يكون بالتى هى أحسن، ويجب أن نقول لأهل الكتاب ،خذ بالك يا صديقي، «وقولوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ» ثم ماذا؟ «ونحن له مسلمون».

هذا هو المطلوب منا تجاه أهل الكتاب، وطلب الجزية أو الغرامة لم تكن إلا فى سياق تاريخى معين على قوم بأعينهم هم «من الذين أوتوا الكتاب» ارتكبوا جريمة غزوة على بلاد العرب، وهى من القصص المحمدى فى القرآن الكريم وليست للتشريع.