رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السينما زمن الطربوش


فى كتابه الجميل «هذه حياتى» يقول عبد الحميد جودة السحار: «رطل اللحم الضأن لم يكن ليزيد ثمنه على ثلاثة قروش .. أما مكونات السلاطة الخضراء فقد كنا نحصل عليها بلا مقابل، فهى هدية من الخضرى ما دمنا من زبائنه، وإيجار الشقة فى الأحياء الوطنية ما كان ليزيد على جنيه أو جنيه ونصف الجنيه». ثم يقول عن أخيه سعيد «سعيد قد نال ليسانس الآداب، ولم يجد وظيفة بعد، مع إنه لو توظف لقبض فى الشهر ستة جنيهات وهى كافية لفتح بيت»! أما عن الكتب التى كان السحار يشتريها ليقرأها فيقول إنه مع أخويه كانوا يتجهون إلى المكتبات المتواضعة على جانبى الطرق المؤدية للأزهر، فإذا جمعوا كتب القصص وضعوها فى الميزان ودفعوا ثمنها بحساب الأقة «الكيلو»! فى ثلاثينيات القرن الماضى التى يصف السحار أحوالها كان قد انقضى على ظهور السينما نحو عشر سنوات أو أكثر بعد ظهور فيلم «الشرف البدوى» و«الأزهار القاتلة» إنتاج شركة إيطالية مصرية عام 1917 و«الخالة الأمريكانية» عام 1922. ترى كيف استقبل المصريون فى مجتمع لم يكن يؤمن حتى بدور الطب أو العلم مفاجأة الفن السينمائى حينذاك؟ تشتمل سيرة حياة السحار على إشارات مهمة فى ذلك المجال، خاصة أنه تابع مولد السينما فى مصر تقريباً منذ البدايات. يحكى السحار عن مرحلة الأفلام الصامتة التى كان نجومها « وليم هارت» أشهر من طارد الخارجين على القانون فى الغرب! ثم أفلام شابلن، ورودولف فالنتينو ساحر النساء، وغيرها. وكانت الأفلام المصرية التى ظهرت تعد على أصابع اليد الواحدة فعلاً لا مجازاً، ويشير السحار إلى دور العرض الكبرى حينذاك: «إيديال»، و«رويال» و«الكلوب المصرى»،و«جوزى بالاس» بشارع عماد الدين، وغيرها، أما سينما «حديقة الأزبكية» فكانت الكراسى فيها تحيط بالمناضد، وثمن التذكرة أربعة قروش تعطى الحق للزبون فى طلب من البوفيه قيمته قرشان! يقول السحار: «كبرنا، وبعد أن كنا نقيس نجاح الفيلم بعدد اللكمات ومقالب الحرامية أصبحنا نقيس نجاحه بالمواقف العاطفية وطول القبلة»! ويقول السحار لقد راج الحديث عن إنتاج أول فيلم مصرى « ليلى» لعزيزة أمير، ويقول: « كنا فى شوق أن نرى على الشاشة أبطالاً مصريين مثل مارلين ديتريتش وجريتا جاربو.. وأعلن عن قرب عرض فيلم «ليلى» فى سينما متروبول خلف محل شيكوريل.. وتجمع الناس أمام دار العرض ودخلنا فرحين مستبشرين.. وبدأ العرض وقلوبنا ترقص من الفرحة، وكل لقطة تهزنا، وأخذنا جميعاً نصيح مأخوذين كلما ظهر شىء فيه الطابع المصرى: الله .. قلة! طبلية! ملوخية! طربوش»!

هكذا بدأ المصرى يرى حياته التى يعرفها حتى لو قدمت له بوعى زائف، إلا أن صورها من حياته وليست من حياة الغرب. ثم تناقلت الصحف أن فيلماً مصرياً ناطقاً سيظهر قريباً، وفيلم « أولاد الذوات» عام 1932 فيقول السحار: «كنا ننتظر فى لهفة فيلم أولاد الذوات فهو أول فيلم ناطق يصور الجزء الناطق منه فى فرنسا وتشترك فى تمثيله ممثلة فرنسية.. وعرض الفيلم وإذا بحوار الفيلم يصبح على كل لسان لكأنما كان أغنية هزت ضمائر الناس»، وأصبح من المألوف أن تسمع الناس يقولون فى الطرقات: «شرف البنت ياباشا زى عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة». فرحة المصريين بمشاهدة حياتهم على الشاشة كانت أيضاً مرة واحدة، فى البداية، ثم اعتادوا ذلك.