رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفارس الذى أنقذ كاريوكا!


التقيت بالمصادفة وبغير المصادفة بعدد من الأدباء والنجوم منهم تحية كاريوكا التى حلت ذكرى وفاتها السادسة عشرة فى 19 سبتمبر الحالى. كان ذلك عام 1961، ولم يكن التليفزيون قد بدأ إرساله وكانت الإذاعة هى الكل فى الكل. ومازلت أذكر جلوسى ملهوفا إلى الراديو لأتابع حلقات «سمارة» وتحية كاريوكا بنت البلد. كنت فى الثالثة عشرة ولفت نظرى إليها اسمها الغريب وعلمت فيما بعد أنه اسم الرقصة التى عرضت عام 1940 فى الفيلم الأمريكى «الطريق إلى ريو» ورأتها كاريوكا فطلبت من «إزاك ديكسون» أن يصمم لها رقصة كهذه وقدمتها بنجاح فالتصق بها اسمك «كاريوكا». وكنت قد شاهدت أفلامها «لعبة الست» مع الريحانى و«شباب امرأة»، واستوقفتنى عيناها الواسعتان اللتان تصبان نظرة متماسكة مسلحة بالصراحة والمواجهة ولا تتمسح بالأنوثة كما كان ومازال شائعا لدى الممثلات. أحببت كاريوكا، وكانت بالنسبة لى نموذجاً نادراً لامرأة تثق أنها كائن إنسانى فى المقام الأول، شجاعة عالية الصوت. وخلافا لشادية التى كنت أحبها كانت كاريوكا تبدو أقرب إلى حياتنا الواقعية تتماس مع عالمنا الأرضى كأنما يمكن التفاهم معها. وذات ليلة عام 1961، فى نحو الواحدة ليلا، كنت أسير فى شارع عبد الخالق ثروت متجها إلى الشقة فى شارع عدلى، حين فوجئت بتحية كاريوكا بقامتها الطويلة الفارهة تقف فى منتصف الشارع أمام باب فندق، وبدنها يرتج مثل شجرة جميلة وهى تصيح منذرة محذرة وقبضتها تتأرجح عاليا. أهى كاريوكا؟! بلى هى! أى خطر يهددها فيجعلها تصيح هكذا وحدها فى الليل؟ أقول كنت نحيفا مثل خط مرسوم على ورقة، هزيلاً، ليس فى جيبى سوى عشرة قروش، لكنى قررت من دون تفكير: «لايمكن أن أترك كاريوكا وحدها فى خطر»! مددت خطاى إليها وشاهدت ثلاثة رجال عمالقة يخرجون من باب الفندق ويمضون بخطوات بطيئة إلى كاريوكا. صحت بينى وبين نفسى: «لا تخافى يا مدام كاريوكا. تمهلى. إنى قادم»! أسرعت إليها. دنوت منها وهمست: «يا مدام تحية ما تخافيش.. أنا معك لن أتركك». شاهدنى الرجال الثلاثة، فتأملونى بدهشة فيل ضخم حين يرى فأراً ضئيلاً يستعظم حجمه ودوره! كان أحدهم زوجها فايز حلاوة. ركز الثلاثة أبصارهم على وراحوا يقتربون منى، كما يقترب الطبيب من فراشة يفحصها. كنت أقف بجوار كاريوكا مبهوتا، فطوتنى بذراعها وأخفتنى مثل لقمة صغيرة وراء ظهرها وصاحت بصوت كالرعد: « اللى ح يقرب منه ح أقطعه حتت»! وتوقف العمالقة الثلاثة فى أماكنهم على الفور. استدارت إلى وربتت على كتفى بحنان: «خلاص يا حبيبى روح انت لأهلك». لكن الفارس يبقى فارسا فرفعت رأسى متشامخا : «عموما لو حصل حاجة أنا تحت أمرك». قالت بلطف: «كتر خيرك. روح بقى». ومن دون تردد أطلقت ساقيى للريح ولم أتوقف إلا عند باب عمارتنا! فتحت لى أمى: «مالك يا ابنى؟!». قلت من خلال أنفاسى المتقطعة: «كنت.. بأنقذ.. بأنقذ.. تحية كاريوكا»! لطمت أمى على خديها هاتفة: «هى كاريوكا عاوزة حد ينقذها؟ يا أولاد الحقوا أخوكم بشوية ميه»! فنانة عظيمة رفعت قدمها عن الأرض فى 19 سبتمبر 1999 وغرستها إلى الأبد فى قلوب عشاقها: رقصة هادرة وزهرة ملونة ونغمة مفرحة.