رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دكاكين مشبوهة .. قصة قصيرة .. يسري أبو القاسم

يسري ابو القاسم
يسري ابو القاسم

كان البرد قارساً كما لم يكن من قبل.. وإزاره الخفيف لا يستطيع للبرد صدًّا.. فمازال صقيع الشتاء يهز أركان كوخه المزروع فى تلك الأرض الفضاء.. أوقد ناراً ولكن الهواء أخمدها.. اقتربا منه.. كلٌ يتدثر فى معطفه الثقيل.. متحصنان من أهوال البرد وأفاعيله.. دفع أحدهما الباب بقدمه.. فدوى صريره وكأنه كلب يعوى.. توجس الرجل منهما خيفة وسألهما من أنتما؟

قالا: رجلان يطلبان الخير.

فقال: إن كان بيدى الخير فلن أتأخر.

فقال الأول بعد أن أغلق الباب وأوقد النار: فى يدك خير إن تمنحنا إياه نسعد جميعاً..

فقال: ألا تريان ؟ رجل ورداء لا يدفع برداً وحصير وخص..

قال الأول: بل نرى.. أرضاً تساوى الكثير.. فقط نريدك أن تبيعنا تلك الأرض.. وذاك الكوخ ولك ما تريد..

فقال الرجل: هذا بيع من لا يملك لمن لا يستحق.. فأنا مجرد حارس.. فأشعل الثانى سيجارته.. ثم قذف بدخانه فى وجه الرجل وقال: بكم تبيع لنا الأرض والكوخ ونصف ضميرك؟. فقال الرجل: وكيف يعيش المرء بنصف ضمير؟ فقال الأول ساخراً: كثير من البشر بلا ضمير ويعيشون.. ونحن أمامك.

فقال الرجل: أنتما ميتان.

قال الثانى بعد أن دار حول الرجل دورة كاملة: سكين الفقر على الفقير.. أشد من سكين الجزار على البهيم..

فقال الرجل: بل موت الضمير أكثر إيلاماً..

ضحك الثانى بصوت عالٍ ثم توقف عن الضحك فجأة وكأنه يعانى من مرض عصبى وقال: يا أيها الغبى حين يموت الضمير لا يكون ألماً ولا وجعاً.. فكيف يتألم جزء فى الجسد قد مات.. حين يموت الضمير.. تتساوى كل الأشياء فتصبح واللا أشياء سواء.. المهم فى المصلحة.. السعادة فى المصلحة.. المصلحة فى المصلحة.. هل تعتقد أن الديوث الذى يجلس وزوجته مع ذاك المسئول الذى سيمنحه تأشيرة لقضاء مصلحته.. لا يعلم أن صاحب التأشيرة ينظر إلى صدر زوجته.. أو ساقيها.. بلى يعلم ولا يتألم.. وذاك الشخص الذى يوشى بصاحبه من أجل المصلحة هل تعتقده يتألم.. وذاك الموظف المرتشى وتلك الغانية وهذا الكاتب الفاسد هل تظنهم يتألمون يا سيدى الشريف الفقير الذى يتألم.. لا ألومك فمازلت تحمل بداخلك ذاك السرطان الخبيث الملقب بالضمير.. انزعه من قلبك وأحشائك.. يا سيدى.. ثم ادفنه هنا فى ذاك الكوخ القمئ.. ودع الكلاب تبول عليه وانعم.. بالمال.. والنساء والخمر.. وتمتع بالحياة.. حياة ليس فيها ألم الشرف والمبادئ.. والحلال والحرام.. وتلك القيود التى لا يهتم بها إلا البلهاء..

فقال الرجل: وكيف أبيعكم أرضاً لا أملكها؟

فقال الثانى مخاطباً صاحبه: يبدو أن خطبتك العصماء أثرت فى ابن العم..

ثم أدار وجهه بسرعة نحو الحارس وقال: اسمع يا سيدى أنت تعرف أين أوراق ملكية الأرض.. فقط اسرقها من والدة الأطفال اليتامى.. أو عدها بالزواج واحصل عليها بالحيلة.. بل قل لها حيلة أخرى فهى لن ترضى بك زوجاً وأنت على هذه الهيئة.. تحايل يا سيدى حتى لو أنهيت حياتها وحياة أولادها من أجل مصلحتك.. بسرعة يا سيدى.. لدينا حلم سيولد هنا على هذه الأرض..

فقال الرجل: وهل تمزيق العقود معناه أن الأرض ستصبح لكم..

قال الأول: نعم فلقد اتفقنا مع الشخص الذى باع لزوجها الأرض أن يكتب لنا عقودا جديدة.. وهو عمه بالمناسبة.. وأنت تقول لى الضمير.. لقد وافق على بيع ابن أخيه وبيع أبنائه اليتامى من أجل مصلحته.. وأنت تقول لى الضمير.. الأمر بسيط جداً يا ابن العم.. كلنا ننتظرك فقط نحتاج العقود لنمزقها وتحصل أنت على ما تريد من المال.. ما رأيك؟

جلس الرجل القرفصاء وبدأ يفكر فى كلامهما.. ثم استخرج فأساً كانت تحت فراشه.. ولوح بها فكاد أن يصيبهما فهرولا فزعين. فقال الأول وهو يجرى: يبدو أنك كما يقول المثل فى بلادكم "رجل وش فقر".. فقال الرجل: "وش الفقر" الحلال أفضل عندى من ظهر الغنى الحرام.. بل أفضل من وجه الغنى الحرام. أغرُبا عن وجهى قبحكما الله.. فضميرى ليس قطعة أرض.. تبنيان عليها دكاكينكما المشبوهة. وقلبى ليس رغيف خبز يسد جوعكما.. ولما بعدا.. اطمأن ثم وضع حذاءه تحت رأسه والتحف بضميره وغط فى النوم.