رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق فكرية أم أوراق مالية؟


تروج دور النشر المصرية والمكتبات وأصحابها من تجار الكتب الذين يلوكون عبارات فضفاضة عن الثقافة لمصطلح «أفضل المبيعات من الكتب»، ويرسخون بذلك لمفهوم أوسع يرى أن الثقافة ليست رسالة بل هى «سلعة» تقدر قيمتها بما تدره من أرباح بغض النظر عن قيمة البضاعة.

 يذكرنى ذلك بكاتب لا يعرف أحد اسمه الآن هو «عزيز أرمنى»، كان يمثل «أفضل المبيعات» فى الستينيات بروايات ذات عناوين مثل «خذنى بعارى»، و«الليالى الحمراء» وكانت كتبه تكتسح فى المبيعات كل أعمال نجيب محفوظ الذى لم يكن معروفاً تقريباً! ولقد طمر الزمن بضاعة «أرمنى» وبقيت أعمال نجيب محفوظ الذى لم يكن «من أفضل المبيعات».

وقد وفد إلينا هذا المصطلح التجارى «أفضل المبيعات» من أمريكا، التى صارت فيها الثقافة الجماهيرية أكثر السلع تصديراً بعد الطائرات! حتى غدت الأفلام الأمريكية والمسلسلات، وأقراص الموسيقى المدمجة تشكل 40% من السوق العالمية، وربع سوق التليفزيون العالمى. ويكفى أن تعلم أن 80% من تذاكر دور العرض فى العالم تعود لأمريكا، وبذلك أمست هذه الثقافة مصدراً مهماً من مصادر الدخل القومى الأمريكى. أمست الثقافة إذن مسألة أوراق مالية فى الأساس وليست أوراقاً فكرية. وقد دفعت تلك النظرة التجارية القاتلة منظمة اليونسكو لدراسة قضية «التنوع والخصوصية الثقافية» وجعلتها تؤكد فى تقرير لها بعنوان «تنوعنا الخلاق فى الثقافة والتنمية» على خطر العولمة التجارية للثقافة. ووقعت اليونسكو اتفاقية بهذا الصدد تشير إلى أن: «الأنشطة والسلع الثقافية تتسم بطبيعة مزدوجة اقتصادية وثقافية»، وإلى ضرورة: «الاعتراف بخصوصية السلع والخدمات الثقافية». وإلى أهمية: «حماية المنتج الثقافى». الشىء المهم أن الاتفاقية جاءت ملزمة لمنظمة التجارة العالمية التى تعاملت مع الثقافة باعتبارها سلعة بحيث اضطرت منظمة التجارة لتعديل قوانينها. جدير بالذكر أن أحداً لم يرفض الاتفاقية سوى أمريكا وإسرائيل! وفى حينه صرح المسئولون الأمريكيون بأن من الممكن إساءة استخدام بنود الاتفاقية لتقييد حرية التجارة! وأعربوا صراحة عن خشيتهم من أن تضر الاتفاقية بصناعة السينما والموسيقى الأمريكية! أما الاتحاد الأوروبى فكان له موقف مختلف، فقد رفض إخضاع المنتجات الثقافية لاتفاقيات التجارة العالمية على أساس أن تلك المنتجات ذات طابع إنسانى ولا يمكن التعامل معها وفق اعتبارات الربح والخسارة ! من المفهوم فى أمريكا حينما تشكل الثقافة الشعبية المصدر الثانى للدخل بعد الطائرات أن تدافع أمريكا عن اعتبار الثقافة « سلعة». لكن لماذا ندافع نحن عن ذلك المفهوم؟ وهل يمكن أن تتحكم قلة من تجار الكتب وأصحاب محلات بيعها فى ترسيخ مفهوم « المبيعات الأفضل» بحيث يطل علينا من جديد عشرات من «عزيز أرمنى» فى مواجهة عشرات من المواهب الشابة والكتاب الجادين؟ فنجد أنفسنا فى بحر من الأضواء الأدبية الزائفة؟. الحق أننى كلما سمعت ذلك المصطلح «أفضل المبيعات فى الكتب» أرى خلفه تاجراً أو تاجرة كتب تتحسس محفظة نقودها بسرور بالغ!

كاتب وأديب