رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شيماء الصباغ .. مسافة قصيرة


أمتار معدودة فى ميدان طلعت حرب كانت تفصل بين الرصاصة وبين شيماء الصباغ ذات الثمانية والعشرين ربيعاً. جاءت من الإسكندرية إلى القاهرة صباح السبت 24 يناير لتقدم باقة ورد لروح الشهداء. نشأت فى أسرة متوسطة الحال. بذلت كل جهودها فى مناصرة قضايا العمال المفصولين. أسهمت فى تأسيس النقابات العمالية. ومع انتفاضة يناير لم تفارق الميدان منذ أيامه الأولى. تعرضت للضرب والسحل وكتبت على صفحتها فى فيس بوك:» البلد دى بقت بتوجع.. يارب يكون ترابها براح». برزت بين الحشود الضخمة أمام قصر الاتحادية فى 30 يونيو تطالب برحيل محمد مرسى. أصبحت إحدى قيادات شباب الثورة وأمينة العمل لجماهيرى بحزب التحالف الشعبى الاشتراكى. هى أيضاً شيماء أم بلال الصغير بسنواته الست. تشبثت بالحرية ولم تدع شيئاً يخمد لهب ذلك الشعور الغالى، وكتبت تقول «أنا لم أتجاوز إلى الآن أيام الثورة الثمانية عشر». عندما ظهرت الدعوة لتقديم باقات الورد لذكرى الشهداء كتبت تقول «أنا نازلة القاهرة للمشاركة ومش مهتمة بأى كلام يهد عزيمتى». يوم السبت وصلت إلى القاهرة. التقت بزملائها فى شارع هدى شعراوى. تحركت بينهم إلى ميدان طلعت حرب وبين يديها باقة ورد وطفلها الصغير فى خيالها، وفى خيالها أنها عائدة إليه. لكن تراب الوطن الذى تمنته فسيحاً رحباً اتسع ليضمها ضمة عاشق يعلم أن الحب قد يكون جرحاً وأحياناً يكون ضمة للأبد. رحلت واحدة من «ألطف الكائنات» الحنونين الطيبين اللواتى «همهن خدمة بلدهن زيهم زى البنين».

المسافة القصيرة بين الرصاصة وشيماء امتلأت بحرس شرف يستقبل العروس الجديدة بالزهور والأهازيج. طابور من مكافحات وبطلات يبدأ بشفيقة محمد شهيدة ثورة 19، ويستمر حتى شهيدات يناير: رحمة محسن، وزكية محمد، ومريم مكرم، ومهير خليل زكي، وهدى صابر، وسالى مجدى زهران، والطفلة هدير سليمان، وأميرة إسماعيل، ورشا جنيدي.فى المسافة القصيرة بين الرصاصة وشيماء سقط الوهم بأن الواقع قد تبدل.فى المسافة القصيرة احتشد أمل آخر مختلف. وفى المسافة القصيرة وقف الكثيرون – بين الرصاصة والدم – يبررون ويفسرون ويحللون ويلتفون حول الحقيقة ويحكون القصة على طريقتهم. إنهم لا يستطيعون تغيير الحقائق،لكنهم يقومون بإعادة ترتيبها، بحيث يقللون من شأن أمور ويضخمون أشياء أخرى، ويحكون القصة بحيث تبرر فى النهاية قتل شيماء. يتساءلون : «أكان ذهابها إلى الميدان ضرورياً؟ هل كنا بحاجة للاحتفال بذكرى الشهداء الآن؟. إلى آخر تلك التساؤلات التى تقلل من وزن التضحية ومن حق الناس فى التظاهر السلمى، بحيث يصبح القتل فى نهاية المطاف أمراً مبرراً أو مقبولاً كحد أدنى. فى المسافة القصيرة بين الرصاصة والدم يقف عدد كبير من المحللين، والمفسرين، والمثقفين الحكوميين، وغيرهم. أنا أستغرب أولئك الذين حين يجدون سجناً يدارونه بكلمة «حديقة»!، ستبقى قصة شيماء، ويوماً ماسيحكيها للناس منشد لامع الصوت يجوب بالحقيقة كل قرية، يردد على ربابته صيحة القلب الجسور: «أنا مش مهتمة بأى كلام يهد عزيمتى». مسافة قصيرة احتشد فيها أطول تاريخ للكفاح والأمل.