رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المسرح القومى بيحلم لمصر


شاهدت منذ أيام مسرحية «باحلم يامصر» افتتح بها المسرح القومى نشاطه بعد توقف خمسة أعوام لترميم المبنى الذى يعود تاريخه إلى عام 1870 عهد الخديو إسماعيل، المسرحية كتبها نعمان عاشور عام 1973 بعنوان «بشير التقدم» فلما لاحت إمكانية تقديمها على المسرح القومى عدلها الكاتب بعنوان «وباحلم يا مصر» وجاء فى تعريفها أنها مسرحية تسجيلية عن رفاعة الطهطاوى، وعرضت بالفعل عام 1975 على المسرح القومى. الآن يجد المسرح القومى أننا أحوج ما نكون إلى ذلك العمل التنويرى. وإذا كان تقديم الأعمال الجادة يدعو للسعادة، إلا أن ذلك يعنى أيضاً أننا مازلنا نخوض معركة نشبت منذ نصف القرن! العمل بطولة المطرب «على الحجار» بصوته الرخيم، والمغنية الشابة «مروة ناجى» بكل مساحات صوتها القوى العريض، إلا أن البطل الحقيقى وراء العرض هو المخرج «عصام السيد» الذى قدم لنا عملاً بديعاً ومرهفاً لا تمله العين والروح لحظة واحدة. استخدم المخرج الكبير كل إمكانيات العرض المسرحى من شاشات سينمائية، والجرافيك، والمونتاج، والرقصات، والغناء، وألوان المناظر، وتبديلها بكل الحيل الدقيقة الساحرة. وللمرة الأولى منذ عشرة أعوام أشعر أننى فى المسرح. العرض يتناول شخصية وسيرة «رفاعة الطهطاوى» الذى خرجت من معطفه الثقافة المصرية الحديثة كلها. فلاح مصرى ولد فى جرجا بالصعيد وأنهى تعليماً أزهرياً. ومع أول بعثة أرسلها محمد على إلى فرنسا 1826 سافر رفاعة بصفته واعظاً وإماماً لطلاب البعثة لا أكثر، لكنه خلال خمس سنوات درس وتعلم بمجهوده وتطلعه لنور المعرفة حتى اجتاز الامتحانات بتفوق، ولما عادت البعثة إلى مصر عام 1931 لم يبق من أسمائها سوى رفاعة ليثبت أن الفلاح القادم من أقصى قرى الجوع والظلمة قادر إذا أتيحت له الفرصة أن ينشر النور إلى نهاية الأفق! عاد رفاعة من باريس ليغرس فى مجتمع متخلف فكرة التطور والحرية تحت شعاره الأثير: «ليكن الوطن محلاً للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع”! ويظل عقد القران الذى كتبه الطهطاوى عند زواجه من ابنة خاله دليلاً باهراً على مدى التحضر الذى بلغه ذلك المفكر العظيم فى علاقته بالمرأة، إذ تعهد لها «أن يبقى معها وحدها على الزوجية» وأباح لها الطلاق بشكل تلقائى إذا تمتع بغيرها من النساء أو الجوارى! وكان رفاعة أول من دعا إلى تعليم المرأة وكتب «المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين». وترجم الدستور الفرنسى بما يتضمنه ذلك من دعوة لوجود سلطات ثلاث قضائية وتنفيذية وتشريعية فى مواجهة سلطة الحاكم الفرد، وأنشأ مدرسة الألسن، وأصدر جريدة الوقائع، وترجم عشرين كتاباً، وأشرف على ترجمة عشرات الكتب الأخرى، بل وأنشأ مكاتب لمحو الأمية، وأصدر أول مجلة ثقافية فى تاريخ مصر وهى «روضة المدارس»! وحين تولى الخديو عباس حكم مصر نفاه إلى السودان! العرض المسرحى أكثر من رائع، والموضوع أيضاً، لكن أسعار بطاقات الدخول الباهظة أفزعتنى، لأنها تعنى أن الاستمتاع بالعرض مقصوراً على القادرين فى القاهرة وهم عادة من المتنورين، أما الجمهور الحقيقى الذى نريد له أن يتعرف إلى رفاعة وإلى حياته وفكره فإنه عاجز عن دخول المسرح. ليت القومى يضع أسعاراً أخرى لطلاب المدارس على الأقل، وليته ينجح فى نقل العرض – ولو بتنازلات فنية- من القاهرة إلى الريف والصعيد لكى نكسر دائرة: مثقفون مستنيرون يقدمون عرضاً مستنيراً