رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عام جديد.. وأمنيات جديدة


عام جديد يفرد جناحيه على الأرض. تحتفل بظهوره وتتوحد عند استقباله البشرية كلها: الصفر والسمر والبيض والسود والحمر، لأنه ليس احتفالاً سياسياً أو دينياً أو وطنياً لفئة بعينها بل احتفال الجميع بالزمن الذى يغمرهم بفرصة جديدة من الحياة على الأرض. يتوقف الناس لحظة، يفكرون، يحدقون بالأيام المقبلة، بالمستقبل، ويطلقون الأمنيات إلى السماء مثل أسراب طيور بيضاء. يراجع المرء ما تحقق من آماله وما لم يزل طى الصدور. كانت لى منذ طفولتى ثلاث أمنيات غالية. الأولى أن أصبح طبيبا لكن مشهد الدم فى أحد المستشفيات أفزعنى ذات يوم، وجعل الطب معشوقة بعيدة المنال. الأمنية الثانية أن يكون لى بيت متواضع أو كوخ على نهر أو بحر مع قارب صغير أخرج به إلى عرض الماء تحت سماء مفتوحة. لكن الإمكانيات المالية أقعدتنى عن تجسيد ذلك الحلم الذى مازال يؤرقنى إلى الآن. أما الحلم الثالث فكان أن أتكلم الفرنسية، فقد كانت الفرنسية ترن فى أذنى دوماً مثل زقزقة أنيقة يمكن لمن يتقنها أن يزهو ويختال بها. لكن مدرس اللغة الفرنسية فى مدرسة المبتديان حطم ذلك الحلم بأصفار متوالية كان يسجلها فى دفترى دون توقف بسرور عارم كأنه يفتح عكا! يضع الصفر ويرفع ذراعه لأعلى بفرح وانتصار كأنه فرغ لتوه من سحق وحش خرافي! أما الكتابة الأدبية والصحفية فلم تكن من أحلامي، لكنها رافقتنى مثل الشهيق والزفير اللازمين لاستمرار الحياة، مجرد ضرورة لا أكثر. فى صباى صرت أحلم بمصر «اشتراكية» وأتمنى مع صلاح جاهين» تماثيل رخام على الترعة وأوبرا فى كل قرية عربية»، ثم تراجع ذلك الحلم الكبير مثل طيف رجل قتيل فى مسرحية كلاسيكية. ومثلما تنسى الأحلام وشاحها أو سيفها وهى تسرع بالرحيل، ظلت لدى من الحلم القديم أمنية بالعدالة، ليس سيادة العدل، لكن العدالة والإنصاف بالقطعة، بالمجزأ، عندما تثور قضية هنا أو أخرى هناك. كنت فى مطلع حياتى أردد «لقد جئت إلى هذا العالم كى أختلف معه» ثم صرت أردد إن فهم العالم أصعب من الاختلاف معه. كنت أتوقع أن أغير العالم مثلما يتوقع الناس جميعاً، فصارت أقصى أحلامى ألا يغيرنى العالم. مع ذلك، فإنني، مع مطلع العام الجديد أنظر إلى جعبتى وأجد فيها سهماً أو سهمين من الأحلام لم تصدأ، وأجد أن يدى مازالت قادرة على إطلاق تلك الأحلام من أقواسها. أحلم مع حلول عام 2015 بإنجاز خايلنى طويلاً، أعنى محو الأمية فى مصر، وهو حلم يتجدد كلما التقيت فى الشوارع بأطفال تلمع أعينهم بالذكاء المتقد والطموح لكنهم مقيدون بسلاسل من الجهل. أقول لنفسى لو أنهم تعلموا، لو أنهم تمكنوا من القراءة والكتابة، لاغتنت مصر بعدد ضخم من العلماء والأدباء والفنانين العظام. إننى قد أتقبل على مضض أن يسير الإنسان حافى القدمين لكنى لا أقبل سير الإنسان حافى العقل والأحلام والوعي. فى العام الجديد أتمنى أن أرى وطنى قارئاً، كاتباً، عالماً، ذواقة أدب وفنون، أن أرى محطات المترو وقد امتلأت بتماثيل الكتاب والمفكرين وبيافطات بأقوالهم، وأن أجد فى كل ميدان كشك موسيقى تصدح منه الأغنيات. أخيراً لو أننى قلت: «عام سعيد على البشرية»، فهل أكون قد بالغت أوطلبت الكثير لنفسى وللناس؟