رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد ناجى.. ساعة الوداع


رحل عنا محمد ناجى يوم الأربعاء 19 نوفمبر. وافته المنية فى أحد مستشفيات باريس بعد رحلة علاج طويلة للكبد بدأها منذ ثلاث سنوات لكنها لم تسفر عن شىء. ناجى من مواليد 1946. فلاح من سمنود. مقاتل أدى الخدمة العسكرية من 1969 حتى 1974 وشارك فى حرب أكتوبر. صانت ذاكرته وروحه نماذج من أبدع بطولات الجندى المصرى وقدم صوراً منها فى رواياته العظيمة التى لا تتكرر. خبر وتأمل وعاش عالم الفلاحين ودماء الحرب وشوارع المدينة. بدأ رحلته الأدبية برواية «لحن الصباح» فى 1994 ثم تعاقبت رواياته الرائعة التى تشكل فى مجملها لوحة فريدة فى الأدب: «خافية قمر» و«العايقة بنت الزين» و«مقامات عربية» وغيرها. كتب وهو على سرير المرض فى باريس ثلاث روايات أخرى هى «سيدة الماسنجر»، و«سيد الوداع» و«قيس ولبنى» وعملاً شعرياً سردياً بعنوان «ذاكرة النسيان» تتمة لعمل سابق باسم «تسابيح النسيان». حين صدرت رواية ناجى «خافية قمر» عام 1994 كتب د. على الراعى يقول «لا تنتهى من قراءة هذه الرواية حتى يكون سحرها قد شملك من رأسك حتى القدمين.. إنها الرواية فائقة الحسن، قد صنعت من مادة الأحلام، ورضعت لبن الخيال»! قدم ناجى سبع روايات غير ثلاث روايات لم تطبع وعملين من السرد الشعرى. اعتمد فى عدد منها على ما قال عنه د. الراعى مادة الأحلام مستلهماً الموروث التاريخى والأسطورى ليس لتزيين الرواية من الخارج بالغرائب، بل بإدراك كاتب كبير أن الموروث الشعبى مفتاح لفهم الشخصية المصرية. ونجح ناجى فى خلق عالم باهر ساحر سيظل مشعاً على جدار الرواية العربية مؤكداً أن الأدب ليس تصويراً أو مطابقة للواقع لكنه عملية مجازية تكشف عن ثراء الحياة والعلاقات التى تتبدى بلغات وشفرات متعددة. خلال ذلك امتاز ناجى بلغة نادرة لا يفارقها إيقاع الشعر وأنفاسه. لغة اجتمع لها الصدق والمرارة والدفء، فصحى تتنفس بروح اللغة الدارجة بكل ما تذخر به من اعتقادات وخيالات. عندما تقرأ ذلك الروائى المدهش سترى الحقيقة ناطقة أمامك فى نماذج ومصائر بشرية وأسئلة تمس المستقبل. سترى النخبة المثقفة التى يختفى تأثيرها ودورها، فأمسى وجودها مقصوراً على تحسس ذلك الوجود، على الحركة بغض النظر عما إن كانت الحركة تقدماً أو تخلفاً. فى روايته «الأفندى» عام 2008 يشهر ناجى حقيقة الوسط الثقافى. كيف يتم اصطناع نجوم الأدب فى ساعات قليلة. تقول إحدى شخصيات الرواية لشخص آخر « سأدبر لك أمر من يكتب باسمك . بألف أو بألفين تصبح مشهوراً؛ مفكراً أو روائياً أو شاعراً.. ادفع وافعل ما تشاء». أبرز ناجى راية الفساد الثقافى فى جملة واحدة «ادفع وافعل ما تشاء» فى ظل زمن وصفه ناجى بقوله «زمن صناعة الفلوس وزراعة الأرانب»! فى «الأفندى» تقرأ نماذج من المثقفين الضائعين. صحفى انتهازى، كاتبة خليجية، مذيعة متسلقة، مقاهى المثقفين حيث تمتد حبال الثرثرة من دون فعل. طرح ناجى الموضوع نفسه من قبل فى روايته «رجل أبلة وامرأة تافهة» وعرض لنا المأساة مجسدة فى شخص صحفى كان ثورياً فى شبابه ثم أصبحت حياته خواء وفراغاً يقضيه مع امرأة لا هم لها سوى أن تحسب كل قرش تم صرفه وكل قرش تم تحصيله، بينما يكتفى هو بمراقبة ما تبقى من حياته وهو يضيع أمام عينيه دون جدوى أو معنى. يتصدر الانشغال بالوطن والناس كل أعمال ناجى، وسوف يذكره الوطن ويتذكره الناس بقدر ما أعطى وأبدع وبقدر ما ترك لنا من خيال وأحلام. حلت ساعة الوداع، ولم يبق لنا سوى مرارة الخسارة الأدبية والإنسانية الفادحة.

كاتب واديب