أونروا.. ضحية أهداف نتنياهو
«كلما طال أمد هذه الحرب، أصبح الصدع أعمق، وزادت معاناة الناس. لقد طفح الكيل».. هكذا لخص فيليب لازارينى، المفوض العام لوكالة أونروا، الوضع فى غزة، بعد الاستهداف المتكرر من القوات الإسرائيلية لمدارس تابعة للوكالة، يلجأ إليها النازحون الفلسطينيون طلبًا للأمان، من قصف القوات الإسرائيلية ووقوع عشرات آلاف الضحايا، نتيجة للحرب التى تبدو أنها كما لو كانت على النساء والأطفال.. لقد أسفرت الحرب فى غزة عن تجاهل صارخ لمهمة الأمم المتحدة، بما يشمل الهجمات الشنيعة على موظفى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين، وعلى مرافقها وعملياتها.. ولا يهدد المسئولون الإسرائيليون عمل موظفى أونروا ومهماتهم فحسب، بل ينزعون أيضًا الشرعية عنها، من خلال وصفها بأنها منظمة إرهابية تُشجع التطرف، ووصم قادة الأمم المتحدة بالإرهابيين المتواطئين مع حماس، ليخلقوا بذلك، سابقة خطيرة تتمثل فى الاستهداف المتكرر لموظفى الأمم المتحدة ومرافقها.
وبينما نكتب هذه السطور، فإن ما لا يقل عن مائتى من موظفى أونروا فى غزة قد قُتلوا بنيران جيش الاحتلال.. وتعرض ما يقرب من مائتى مبنى لأونروا للأضرار أو للتدمير، وكذلك تعرضت مدارس الوكالة للهدم، وقُتل النازحون أثناء إيوائهم فى هذه المدارس وغيرها من المبانى.. ومنذ السابع من أكتوبر، قامت القوات الإسرائيلية باعتقال موظفى أونروا فى غزة، الذين أفادوا بتعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة أثناء احتجازهم فى قطاع غزة أو فى إسرائيل.. وما زال يتعرض موظفو أونروا للمضايقة والإهانة بشكل منتظم، عند حواجز التفتيش الإسرائيلية فى الضفة الغربية، بما فى ذلك القدس الشرقية.. وتستخدم القوات الإسرائيلية منشآت الوكالة لأغراض عسكرية.
ولمن لا يعرف، فإن أونروا، هى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين فى الشرق الأوسط.. قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتأسيسها عام 1949، وفوضتها بمهمة تقديم المساعدة الإنسانية والحماية للاجئى فلسطين المُسجلين فى مناطق عمليات الوكالة، إلى أن يتم التوصل إلى حل عادل ودائم لمحنتهم.. وبعد مرور ما يقارب خمسة وسبعين عامًا، لا يزال عشرات الآلاف من لاجئى فلسطين الذين فقدوا منازلهم وسبل عيشهم، بسبب ما حدث فى عام 1948، نازحين وبحاجة إلى دعم، ناهيك عما يحدث الآن فى الضفة الغربية وقطاع غزة.. وتساعد أونروا لاجئى فلسطين فى تحقيق كامل إمكاناتهم فى التنمية البشرية، من خلال الخدمات النوعية التى تقدمها فى مجالات التعليم، والرعاية الصحية، والإغاثة والخدمات الاجتماعية، والحماية، والبنى التحتية وتحسين المخيمات، والتمويل الصغير، بالإضافة الى المساعدات الطارئة.. ويتم تمويل أونروا بالكامل تقريبًا من خلال التبرعات الطوعية.
وقد امتدت الاعتداءات على أونروا وصولًا للقدس الشرقية، حيث قام أحد أعضاء بلدية القدس بالتحريض على الاحتجاجات ضدها.. ومن ثم، ازدادت وتيرة خطورة التظاهرات، مع وقوع ما لا يقل عن هجومى حرق متعمدين على مجمع أونروا، وتجمع حشد، من بينهم أطفال إسرائيليون، خارج مقرها وهم يهتفون «أحرقوا الأمم المتحدة»!!.. وفى أحيان أخرى، رشق المتظاهرون الحجارة على مكتبها الرئيسى هناك.. وهكذا تُشيطن إسرائيل أونروا، تمهيدًا لمحوها.. لماذا؟.
كتب موقع «ميديا بارت» الفرنسى، أن إسرائيل لم تبرر اتهاماتها بضلوع وكالة أونروا فى «الإرهاب»، لكن السم فعل فعله وباتت الوكالة على حافة الانهيار، مع تواصل حملة إسرائيل وحلفائها لتصفيتها وتصفية حق العودة للفلسطينيين معها.. وفى تحقيق مطول، بقلم ماتيو مانيودى، ذكر الكاتب بدايات الحملة، حين اتُهمت أونروا بالتواطؤ مع حركة حماس، وكان من نتائج ذلك، تعليق جزء كبير من التمويل، بما أصاب فى مقتل خدمات إغاثة ستة ملايين لاجئ فلسطينى، أغلبهم فى قطاع غزة، الذى يعيش مأساة غير مسبوقة فى تاريخ القضية الفلسطينية، ذهب ضحيتها حتى الآن أكثر من أربعين ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى، بخلاف من لا يزالون تحت الأنقاض، منذ اندلاع الحرب فى القطاع، وهؤلاء يُعدون بعشرات الآلاف أيضًا.
من يعرفون تاريخ القضية، يدركون أن ما تلقاه أونروا، مجرد مرآة لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين، ويدركون أن إسرائيل والمدافعين عنها يمقتون الوكالة ويسعون لتفكيكها.. وبداية برئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وادعائه بأنها «مخترقة تمامًا على يد حماس»، وصولًا إلى سفارة إسرائيل فى باريس، التى اتهمتها بـ«تأبيد مشكلة اللاجئين ومنع بسط السلام»، لطالما رُميت أونروا بتهمة إطالة الصراع، بإدامة فكرة حق عودة ستة ملايين لاجئ، وهو «حق ثابت» أقرته الجمعية العامة الأممية فى 1974، وذلك شىء لا تريده إسرائيل، التى دعت قبل سبع سنوات إلى تفكيك الوكالة، وتُواصل حملتها الآن، مدعومة بحليفها الأمريكى، الذى يقول إن اتهامات تل أبيب لأونروا ذات مصداقية!.. وتكرر واشنطن نفس ما تردده إسرائيل، من اتهامات للوكالة بعدم التزام الحيادية، لكنها فى أغلب الأحيان لم تقدم أدلة.
ولأن أونروا باتت رمز انخراط الأمم المتحدة فى البحث عن حل دائم للمشكلة الفلسطينية لعودة اللاجئين، فإن إسرائيل تمقتها، لأنها تسمح بحق عودة اللاجئين، وهو حق تريد تل أبيب القضاء عليه.. لذلك، فإن الخطة الإسرائيلية الحالية تسعى إلى تفكيك الوكالة فى غزة، وقد بدأت نهاية 2023 بتقرير سرى لوزارة الخارجية الإسرائيلية، أوصى بثلاث مراحل، أولاها ادعاء «تعاون» الوكالة مع حماس.. وبدأت الدوامة فى 26 يناير الماضى، عندما فصل فيليب لازارينى، مفوض الوكالة نحو عشرة موظفين، فورًا، ودون الإجراءات المعتادة ولا تبيان الأدلة، بعد استلامه «معلومات عن تورط محتمل لعاملين فى الهجمات على إسرائيل»، وهو ما ثبت كذبه لاحقًا.. بل إن شهادات العاملين فى الوكالة، أسهمت فى مطالبة محكمة العدل الدولية إسرائيل، بمنع وقوع إبادة جماعية فى القطاع.. فكان من الضرورى أن تمسك إسرائيل بيد الوكالة، وتُغل من حركتها، بأن باتت الفجوة المالية الآن هائلة، بعد تعليق الولايات ومعها ثمانية عشر بلدًا آخر عمليات التمويل، فى وقت تحتاج فيه الوكالة إلى أربعمائة وخمسين مليون دولار، للتكفل بنحو ستة ملايين لاجئ، ينحدرون من سبعمائة ألف فلسطينى، أُجبروا على اللجوء، حين قامت دولة الاحتلال الإسرائيلى عام 1948.
فى مطعم بالقرب من الأمم المتحدة، عقدت منظمة «مراقبة الأمم المتحدة» غير الحكومية الموالية لإسرائيل، مؤتمرًا سريًا، فى فبراير الماضى، دعت إليه مجموعة من الشخصيات من بينها المنسق الخاص السابق للشرق الأوسط، فى عهد الرئيس الأمريكى بيل كلينتون، دينيس روس للعمل على إلغاء وكالة أونروا، التى تعتقد أنها تعمل على إدامة الصراع الإسرائيلى- الفلسطينى.. وقد نُظم الحدث حسب تقرير ستيفان بوسار، لصحيفة لوتان السويسرية تحت عنوان «القمة الدولية من أجل مستقبل بدون أونروا»، ولكن الحضور فى جنيف كان ضئيلًا، وكان يتألف بشكل رئيسى من المتحمسين لإسرائيل ومجموعة من المتحدثين.. وتحوَّل المؤتمر، الذى كان من المفترض فى البداية أن يُعقد فى قصر الأمم، إلى مطعم يقع على مرمى حجر من المقر الرئيسى للأمم المتحدة.
هاجم المدير التنفيذى للمنظمة، هيليل نوير، بشكل مباشر، الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، الذى كان على بُعد بضع مئات من الأمتار، لافتتاح الدورة الخامسة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان، قائلًا «أنت تقول إن أونروا لا يمكن الاستغناء عنها، وإنها حيوية بالنسبة للفلسطينيين، ومع ذلك شارك اثنان وأربعون عضوًا منها فى هجمات السابع من أكتوبر، وما بين ألف ومائتين وألف وخمسمائة موظف فى الوكالة، هم جزء من حركة حماس أو الجهاد الإسلامى»، رغم أن أيًا من هذه الادعاءات لم يثبت حتى الآن.. وبعد توزيع كتيب يروى محادثات ثلاثمائة معلم من معلمى أونروا على تليجرام، يرحبون فيه بهجوم حماس، قال نوير «لقد طفح الكيل، يجب استبدال أونروا.. فإنها منظمة فاسدة حتى النخاع»!، مرددًا بذلك صدى حملة تقودها إسرائيل منذ سنوات من أجل اختفاء الوكالة، وهذا ما رددته سفيرة إسرائيل لدى الأمم المتحدة، ميراف إيلون شاحار، قائلة إن «إسرائيل لا يمكنها الاستمرار فى العيش مع أونروا فى غزة».. كانت هذه الانتقادات ضد الوكالة والمطالبة بإلغائها تتردد، فى وقت يعانى فيه سكان غزة من جحيم حقيقى و«كارثة إنسانية»، وهم محاصرون بالقصف الإسرائيلى والجوع، بسبب حظر دخول المساعدات الإنسانية غير الكافية، وقد جمَّدت ثمانى عشرة دولة تمويل الوكالة.
■■ وبعد..
كيف يمكن أن يكون هذا ممكنًا؟.. وأين الغضب الدولى؟، الذى يمثل غيابه تصريحًا بتجاهل الأمم المتحدة، ويفتح الباب أمام الإفلات من العقاب وانتشار الفوضى.. إذا تسامحنا مع مثل هذه الهجمات فى السياق الخاص بإسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة، فلن يتمكن أحد من التمسك بالمبادئ الإنسانية فى نزاعات أخرى حول العالم.. إن الاعتداء على الأمم المتحدة سيزيد من إضعاف أدوات السلام، ومن القدرة على الدفاع ضد الأعمال اللا إنسانية فى جميع أنحاء العالم.. ويجب ألا يصبح هو المعيار الجديد.. من الضرورى الدفاع، بشكل هادف وذى مغزى، عن مؤسسات الأمم المتحدة والقيم التى تمثلها أمام التمزيق الرمزى لميثاق للأمم المتحدة.. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال العمل المبدئى الذى تتخذه دول العالم، والتزام الجميع بالسلام والعدالة.. صحيح، أن المجتمع الدولى يحظى بالوسائل والسبل للتصدى لارتكاب الجرائم الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية.. ومع ذلك، فإن حجم ونطاق الهجمات ضد موظفى الأمم المتحدة ومبانيها فى الأرض الفلسطينية المحتلة، فى الأشهر الماضية، يستحق إنشاء هيئة تحقيق مستقلة ومخصصة بشكل عاجل، من خلال قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو الجمعية العامة، للتأكد من الحقائق، وتحديد المسئولين عن الهجمات على وكالاتها.. ويمكن لهيئة التحقيق هذه ضمان المساءلة، والأهم من ذلك، المساعدة فى إعادة التأكيد على حُرمة القانون الدولى.. إذا كنا نريد بحق مجتمعًا دوليًا يتمتع بشيوع العدالة..
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.