نملك القوة.. لكن السلام طريقنا
اتخذت القيادة المصرية من الوسائل السياسية والدبلوماسية منهاجًا فى مواجهة أى مشكلات تطرأ على علاقاتها الدولية، وجنحت إلى السلام، كعقيدة مصرية راسخة، ولم تلجأ يومًا للعنف، سبيلًا لحل أى مشكلة، مع أن لمصر جيشًا قويًا قادرًا على خوض المعارك، وقد اعترف الكثيرون، ممن يصنفون فى خانة المتربصين بأمنها، بأنه من أقوى جيوش المنطقة قاطبة. ولو كانت مصر تريد ضررًا بمن يتربص بأمنها القومى، حدوديًا أو مائيًا، لفعلت منذ اللحظات الأولى، لكن الرئيس عبدالفتاح السيسى يؤمن دائمًا بأن شيوع السلام فى المنظقة هدف أسمى تسعى إليه القاهرة، وما يمكن حله بالقوة فى لا زمن يُحل بالسياسة حتى لو طال الزمن. وأمامنا أمثلة على ذلك، تمسك إسرائيل بالبقاء فى محور فيلادلفيا، تهديد الجانب الغربى من ليبيا لجانبها الشرقى المُتاخم لحدود مصر الغربية، وما رسمه الرئيس السيسى وقتها من خط أحمر عند سرت الجفرة، وأم المشاكل سد النهضة الذى يتهدد مصر فى أمنها المائى. وكان مبدأ مصر، حيال كل تلك الأزمات، هو أننا نؤمن بشرف الخصومة، فى زمن عزَّ فيه مثل هذا الشرف، وأننا لمن حولنا أداة بناء لا معول هدم.
إلا أنه، ومع تصاعد التوترات فى منطقة القرن الإفريقى المضطربة، خرج رئيس الوزراء الإثيوبى، أبى أحمد، ليقول إن بلاده سوف تتصدى لأى دولة تهدد سيادتها، «لن نسمح بأى مساس بنا.. ولن نتفاوض مع أحد فى شأن سيادة إثيوبيا وكرامتها»، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية، بعد أن اتهمت إثيوبيا الشهر الماضى جهات لم تُسمها بالسعى إلى «زعزعة استقرار المنطقة»، بعدما أرسلت مصر معدات عسكرية إلى الصومال، عقب توقيع اتفاق تعاون عسكرى بين القاهرة ومقديشو، وعرضت مصر نشر قوات فى الصومال، فى إطار بعثة جديدة بقيادة الاتحاد الإفريقى، من المقرر أن تحل محل قوة حفظ السلام الحالية المعروفة باسم «أتميس»، بداية يناير المقبل، فى الوقت الذى تخوض ثانى أكبر دولة فى إفريقيا من ناحية عدد السكان نزاعًا مع الصومال المجاور، بعد اتفاق على ميناء بحرى وقاعدة عسكرية، وقعته أديس أبابا مع منطقة أرض الصومال الانفصالية، كما تشهد العلاقات مع مصر توترًا بسبب السد الذى أنشأته أديس أبابا على النيل الأزرق.
فى نفس الوقت، وعلى لسان المشير بيرهانو جولا، قائد القوات المسلحة الإثيوبية، اتهمت أديس أبابا قيادة الصومال بالعمل مع من وصفتهم بـ«أعداء إثيوبيا».. وخلال احتفالات الذكرى السابعة والأربعين لتأسيس القيادة الشرقية لإثيوبيا، ألقى بيرهانو كلمة أمام ضباط ومسئولين عسكريين، بمن فيهم نائب رئيس الوزراء، الجنرال أبيباو تاديسى، أكد فيها استعداد الجيش لمواجهة أى تهديدات داخلية أو خارجية للأمة، محذرًا من «الأعداء التاريخيين» الذين يحاولون تعطيل تقدم إثيوبيا، «جيشنا مستعد تمامًا لمنع أى اضطرابات والدفاع عن استقلال بلادنا»!!.. كما اتهم قوى أجنبية لم يحددها بمحاولة زعزعة استقرار إثيوبيا، من خلال التعاون مع «مرتزقة وخونة داخليين»!!.. وسلط الضوء على مخاوف إثيوبيا بشأن التعاون المتنامى بين الصومال ومصر، الذى تعتبره أديس أبابا تهديدًا، وتشعر إثيوبيا بحذر خاص إزاء المشاركة المحتملة لمصر فى عمليات حفظ السلام فى الصومال، حيث تفسرها على أنها خطوة استراتيجية قد تتحدى نفوذها فى المنطقة، فى ضوء التوترات طويلة الأمد، بين إثيوبيا ومصر، وخصوصًا بشأن مشروع سد النهضة الإثيوبى على نهر النيل، والذى تسبب فى احتكاك بين البلدين.. ويرى المسئولون الإثيوبيون أن مشاركة مصر المتزايدة فى الصومال، بما فى ذلك دعمها لجهود حفظ السلام، تشكل جزءًا من استراتيجية جيوسياسية أوسع نطاقًا.. وكأن أديس أبابا تتحسس رأسها، بسبب موقفها المتعنت مع القاهرة بسبب مياه النيل، بعد تصرفاتها الأحادية، فيما يتعلق بملء وتشغيل السد.
فهل كانت التنمية حقًا هى الدافع الرئيسى وراء مشروعات السدود الإثيوبية على بحيرة تانا، مصدر نهر النيل؟، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
هذا ما يقوله الإثيوبيون، ولم يعترض عليه المصريون ولا السودانيون، شريطة ألا يضر أى من هذه المشروعات بما يعتبرونه «حقوقًا مائية ثابتة».. وكانت مصر قد عرضت ذلك على إثيوبيا، فى إطار نهجها الجديد، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، القائم على مساعدة الأشقاء فى القارة، على نهضة شعوبهم وتنمية موارد بلادهم.. لكن الحقيقة هى أن تحدى هذه الحقوق، التى يتمسك بها السودان ومصر، وإبطالها هما أهم الدوافع وراء مشاريع إثيوبيا لإنشاء سدود على النيل الأزرق، مصدر أكثر من 80% من مياه نهر النيل الرئيسى، كما تكشف الوثائق البريطانية. ووفق هذه الوثائق، فإن الإثيوبيين أبلغوا البريطانيين بذلك قبل ثلاثة عقود مضت.
فى النصف الثانى من شهر ديسمبر عام 1992، نظمت كلية الدراسات الشرقية والإفريقية «سواس» فى جامعة لندن مؤتمرًا لبحث «المياه فى الشرق الأوسط: العواقب القانونية والسياسية والتجارية».. وفى تقييمه للمؤتمر، قال جريج شيبلاند، مسئول ملف المياه فى الشرق الأوسط بالخارجية البريطانية، وممثل لندن فى المباحثات متعددة الأطراف بشأن المياه، إنه انطوى على «جوانب جيدة وأخرى سيئة».. الجوانب الإيجابية شملت بحث قضايا القانون الدولى العامة ذات الصلة بالأنهار التى تشترك فيها دولتان أو أكثر، والمسائل العامة المتعلقة بمخصصات المياه بين القطاعات الاقتصادية داخل الدول.. وفيما يتعلق بـ«الجوانب السيئة»، تحدث شيبلاند عن «الافتقاد المعتاد للتفاهم بين المصريين والإثيوبيين» بشأن المياه، كما «بين العرب والإسرائيليين»، بالنسبة للقضية الفلسطينية.
كان المستشار الدكتور عوض محمد المر، رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية، آنذاك، رئيس وفد مصر فى المؤتمر.. ولخص شيبلاند الموقف المصرى، كما عرضه المر، فى أن «لدى مصر حقوقًا مكتسبة بخصوص كمية مياه النيل التى تستخدمها حاليًا، ويعتمد أمن مصر الزراعى على الاعتراف بهذه الحقوق المكتسبة، ومصر لن تتسامح أبدًا مع بناء إثيوبيا أى سدود على النيل الأزرق، لأنه مصدر أكثر من 80% من الإيراد العام لمياه نهر النيل».
فى ذلك الوقت، كانت مصر، ولا تزال حتى الآن، تتمسك بـ«حصتها الواقعية» القائمة منذ سنوات طويلة وتعتبرها حقًا تاريخيًا، وهى 55.5 مليار متر مكعب سنويًا من مياه نهر النيل. وخلال السنوات الماضية، دأبت مصر على التحذير من المساس بـ«حصتها» من المياه.. كما تشدد على حقها فى أن تُخطر بأى مشروعات على منبع النهر شريان حياة مصر، وفق الاتفاقيات الدولية.. وأبلغ الدبلوماسى البريطانى وزارة الخارجية عن حوار دار بينه وبين الدكتور تيسفات، رئيس الهيئة الإثيوبية لدراسات تنمية الأودية، الذى كان يتصدى للموقف المصرى فى المؤتمر.. ورغم رأيه الناقد للموقف المصرى، صارح شيبلاند المسئول الإثيوبى، بأنه من «الممكن أن تكون هناك مشكلات بشأن النيل بين دول الحوض أقل مما يعتقد المتابعون، لو سعت إثيوبيا لتنمية الأنهار الأخرى فى شمال البلاد، مع استبعاد النيل الأزرق».. فمثل هذا السلوك «سيكون أكثر جدوى اقتصاديًا لإثيوبيا».. ووفق شيبلاند، فإن المسئول المائى الإثيوبى أقر بصحة هذا الطرح.
ورغم إقرار الدكتور تيسفات، فإنه أكد لشيبلاند أن «إثيوبيا قد تختار تنمية النيل الأزرق أولًا، كى تؤكد حقها فى استخدام مياه هذا النهر، إذا ظل الإثيوبيون يستمعون دائمًا إلى هذا النوع من الأقوال التى سمعناها من رئيس وفد مصر، عوض المر».. ولم تكشف الوثائق البريطانية عما إذا كان البريطانيون قد أبلغوا، فى حينه، مصر، سواء بموقفهم من الطرح المصرى أو بالتبرير الإثيوبى لمشاريع بناء السدود على النيل الأزرق.. إلا أن وثائق أخرى، كشفت عن أن بريطانيا خلصت عام 1990، إلى أن مصر «لن تقبل أن تكون رهينة لسلاح المياه الاستراتيجى».. وقبل هذا بحوالى ثلاثين عامًا، توقَّع البريطانيون، فى عام 1961، بأنه إذا امتلك الإثيوبيون المال، فسوف يدفعهم هذا إلى اتخاذ سياسات مائية تضع مصر فى موقف بالغ الصعوبة.. بل إن تقارير دبلوماسية بريطانية عبرت عن «الشفقة» على وضع مصر فى هذه الحالة.
وبعد نصف قرن، تحققت النبوءة البريطانية بالفعل.. ففى أثناء أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011، نفذ الإثيوبيون مشروعهم، وشرعت إثيوبيا فى بناء سد النهضة على الشريان الرئيسى لمياه نهر النيل.. وواصلت بناء المشروع، رغم الاحتجاجات المصرية والسودانية، والمفاوضات الماراثونية الثلاثية التى شاركت فيها الولايات المتحدة أحيانًا، وهو ما احتجت عليه مصر.. ورغم توقيع إثيوبيا ومصر والسودان اتفاق إعلان المبادئ بشأن مشروع السد عام 2015، فإن الخلافات حوله لا تزال تخيم على العلاقات بين أديس أبابا والقاهرة، مع أن هناك أساسًا قانونيًا لحصة مصر «التاريخية» من مياه النيل.. كيف؟
تحصل مصر منذ أكثر من ستة عقود على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويًا من النيل.. ومع التزايد المستمر فى عدد سكانها، الذى تجاوز مائة وعشرة ملايين نسمة، تشكو من أن هذه الحصة غير كافية، وألقت بالبلاد فى فقر مائى.. كمية المياه هذه هى نتيجة «اتفاق الاستخدام الكامل لمياه النيل» المبرم يوم الثامن من نوفمبر عام 1959 بين مصر والسودان.. ووفق هذا الاتفاق، فقد أقر البلدان متوسطًا سنويًا لتدفق مياه النيل بـ84 مليار متر مكعب.. واتفقا على تقسيمه بين مصر تحصل على 55.5 مليار متر مكعب.. والسودان يتلقى 18.5 مليار متر مكعب.. والباقى اعتبر خسائر مائية نتيجة التبخر والتسرب فى السد العالى، تعادل عشرة مليارات متر مكعب. غير أن إثيوبيا تشدد على عدم اعترافها بهذا الاتفاق، وأنها لم تعتمد هذه الحصص.. ولا تزال أديس أبابا ترفض قبول مسألة «الحقوق المكتسبة» أو «التاريخية» لمصر.. بعد أن كانت قد أعلنت عن أنها «سوف تحتفظ بمياه النيل فى أراضيها، لاستخدامها بالطريقة التى تراها مناسبة»!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.