ماذا حدث عند جسر الملك حسين؟
لأنهما يرصدان الواقع بعين ثاقبة، ويتوقعان القادم بعقل يُنبه ويُحذر، فإن ما يحدث فى المنطقة من تداعيات استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما حدث على معبر الكرامة، أو اللنبى، أو جسر الملك حسين، وكلهم موقع واحد بتسميات ثلاث، يؤكد تحذيرات الرئيس عبدالفتاح السيسى والعاهل الأردنى، الملك عبدالله الثانى، الاستباقية والمتكررة بشأن ضرورة وقف الحرب على غزة، واللذين حذرا دومًا من خطورة استمرارها على السلم والأمن الدوليين.
فما حدث جاء مؤشرًا خطيرًا نبهت إليه مصر والأردن منذ اليوم الأول للعدوان، ودعتا العالم إلى ضرورة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب وعملياتها فى غزة والضفة الغربية، ولكن للأسف، يصمت العالم أمام الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى، مع أن النتيجة الحتمية لاستمرار العدوان الإسرائيلى بحق المدنيين، هى تأجيج الأوضاع فى المنطقة، وستكون هناك ردود أفعال فردية من قبل شعوب المنطقة ضد الاحتلال ومن يسانده.. بل إن ردود أفعال الشعوب ستكون أكثر عنفًا مما يقوم به الاحتلال، وإن تحذيرات القيادة المصرية والأردنية كانت ولا تزال استشرافًا للمستقبل، فى ظل استمرار آلة الحرب الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى، فالعنف لا يولد إلا العنف، وعلى المجتمع الدولى أن يستمع إلى تحذيرات القيادتين المصرية والأردنية، والتحرك فورًا لوقف هذه الجريمة النكراء.
ما حدث على الجانب الآخر من جسر الملك حسين فى الداخل الفلسطينى، حيث قام سائق شاحنة أردنى، بإطلاق النار على جنود إسرائيليين وقتلهم وتم استشهاده، هو ترجمة حقيقية لما حذر منه مسبقًا وما زال يحذر منه الرئيس السيسى وأخوه الملك عبدالله الثانى فى أكثر من مناسبة، من تداعيات العدوان الإسرائيلى الغاشم واستمراره على غزة والضفة الغربية، وآثاره السلبية والخطيرة على أمن المنطقة ومحيطها، ولا تزال فرص تكرار مثل هذه العمليات قائمة، مادامت استمرت إسرائيل فى عدوانها على أهالى غزة والضفة الغربية.. وعلى حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى المتطرفة، تقع مسئولية هذا الحادث ومسئولية تدهور الأوضاع الأمنية فى المنطقة، لأن أعمال هذه الحكومة والدعم الدولى لها أفقدت الشارع العربى الثقة فى جدية القانون الدولى، وشرعية المنظمات العالمية التى تساند هذه الحكومة المتطرفة، وتسد الآذان دون الاستماع إلى التحذيرات المستمرة التى كان وما زال يطلقها كل من الرئيس السيسى وأخوه الملك عبدالله الثانى، تجاه ضرورة وقف التصعيد الإسرائيلى، والتوصل إلى سلام شامل وعادل، يتمثل فى حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية، عند حدود الرابع من يونيو 1967.
وهنا، يأتى السؤال الأهم: كيف غيَّرت حرب غزة نظرة العرب والسياسة الدولية وتاريخ العالم؟.
تناولت الصحف الدولية تداعيات الحرب الدائرة حاليًا بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، على الرأى العام فى الوطن العربى والتغيرات التى طرأت على السياسة العالمية، جراء القصف العشوائى على قطاع غزة وامتد إلى الضفة الغربية، والذى فاقم أوضاع السكان هناك.. أكدت مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، أن الخسائر الفادحة فى غزة لاقت صدى فى العالم العربى، مما يدل على السمة البارزة للصراع الإسرائيلى الفلسطينى، وقوة تأثيره فى تشكيل السياسات فى المنطقة، وأن هجوم حماس والحملة العسكرية الإسرائيلية أحدثتا تغييرًا فى آراء العرب على وجه التحديد، أولها، انخفاض معدل التأييد لإقامة علاقات «إيجابية أو دافئة» مع إسرائيل، وأكبر تراجع فى نظرتهم إلى الولايات المتحدة.
وفى مقال آخر حول الموضوع نفسه تقريبًا، كتب الصحفى البريطانى، بيتر أوبورن، فى موقع «ميدل إيست آى»، يقول إن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية غيرت السياسة العالمية.. وكشف أن ثمانى مائة خبير فى القانون الدولى ودراسات الصراع، حذروا من ارتكاب القوات الإسرائيلية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، وقدموا أدلة قوية على حجم وشراسة الهجمات الإسرائيلية، مؤكدين أن «اللغة التى تستخدمها الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، تبدو وكأنها تعيد إنتاج الخطاب والاستعارات المرتبطة بالإبادة الجماعية والتحريض على الإبادة الجماعية».. وأعرب الصحفى البريطانى عن اعتقاده، بأنه من المستحيل إغفال الشعور بالاشمئزاز الذى يقترب من العداء تجاه الولايات المتحدة، وأنه لم يعد بالإمكان الثقة فى الأمريكيين، فى لعب دور الوسيط فى محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.. وخلص إلى أن «شجاعة الشعب الفلسطينى ومعاناته وقدرته على التحمل، قد غيرت تاريخ العالم»، وأفقدت الديمقراطيات الليبرالية «المزعومة» الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وبريطانيا مكانتها، لأنها هى التى شوهت سمعة النظام العالمى الليبرالى، بمنحها رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، تفويضًا مطلقًا، بالإبادة الجماعية لشعب أعزل.
تقول الكاتبة بصحيفة «الجارديان» البريطانية، نسرين مالك، إن الشىء الوحيد الذى يمكنها قوله بيقين تام عن حرب غزة، هو أن الناس رأوا الكثير الذى سيبقى معهم لفترة طويلة، وأن ثقتهم فى «المجتمع الدولى» لن تكون هى نفسها.. ومهما يحدث من حديث عن إمكانية هدنة هشة قد تطلق شعاعًا رقيقًا من الضوء، إلا أنه تم إطلاق ظلام فى العالم، شكله النهائى لم يكتمل بعد، لكنه يستمر فى التشّكُل.. عدم القدرة على إقناع «الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط» المزعزمة، بشىء يبدو واضحًا تمامًا، وهو أن الأحداث التى وقعت فى السابع من أكتوبر الماضى لا يمكن محوها بمزيد من الرعب، والدرس الوحشى والقصير، هو أن حقوق الإنسان ليست عالمية، والقانون الدولى يُطبق بشكل تعسفى.. فالقادة السياسيون فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يقدمون سردًا غير دموى بشكل صارخ للصراع، يتجاهل الحقيقة المطلقة وعدد الوفيات، ويلجأون بدلًا من ذلك إلى لغة شبه سريالية، تدعو إلى «كل الاحتياطات الممكنة» لحماية حياة المدنيين، ويفقد مسئولو الأمم المتحدة هدوءهم، ويستخدمون أقوى المصطلحات الممكنة، فيما يبدو أنه نتيجة مباشرة لهذا الإصرار الغريب على عدم تسمية الواقع بما هو عليه.
وعلقت الكاتبة على الفظائع التى ارتكبها الاحتلال الصهيونى خلال الحرب، قائلة، إن غزة هى المكان الذى يأتى منه الشعور بفقدان عقلك: حقيقة أنه يبدو أن القوى الغربية غير قادرة، حتى على التظاهر بوجود نظام عالمى من القواعد التى تزعم أنها تتمسك بها.. إن جزءًا من عدم القدرة على الوصول إلى روايات مقنعة، حول سبب قتل الكثير من الأبرياء، هو أن الأحداث تصاعدت بسرعة مرعبة، ولم يكن هناك وقت لتحديد وتيرة الهجمات على غزة، وإعداد المبررات والأمل فى أن يؤدى الوقت وفترات الاهتمام القصيرة فى نهاية المطاف إلى تغطية الخسائر.. حرب غزة صراع شديد بشكل فريد وغير مريح، ولفتت إلى ما قالته صحيفة «نيويورك تايمز»، من أن وتيرة الموت خلال حملة إسرائيل على غزة، لها سوابق قليلة فى هذا القرن.
الشهور الماضية كانت درسًا قويًا فى الطبيعة الوهمية للقانون الدولى، على عكس العراق، حيث استغرق الأمر سنوات لتتراكم الجثث، وتتصاعد الأدلة، وتثبت أن المشروع لم يجعل أحدًا أكثر أمانًا، وكان بلا رحمة ومضللًا، وفى النهاية تتسرب الثقة فى القيادة السياسية.. أما فى غزة، فالأحداث تجرى فى الوقت الحقيقى، وفى بعض الحالات يتم بثها مباشرة، وعمليات القصف لا هوادة فيها ومُركزة، لدرجة أن عائلات بأكملها قد تم القضاء عليها.. وقد نزح الآلاف، وحملوا أطفالهم.. وهناك أيضًا انعدام للقوة الأخلاقية لأحوال الأطفال، ليس فقط استشهادهم جراء الحرب المستمرة على قطاع غزة، والذين تجاوز عددَهم عدد ما وقع خلال أربع سنوات من النزاعات فى جميع أنحاء العالم، ولكن تيتمهم ونزوحهم وحرمانهم من الطعام والماء فى غزة المحاصرة، التى أصبحت الآن، وفقا لليونسيف، «أخطر مكان فى العالم للأطفال».
«القادم ما زال أسوأ، لأننا نتعامل مع حكومة إسرائيلية تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ولم تترك قانونًا دوليًا إلا وخرقته.. وما تقوم به تل أبيب فى الضفة الغربية، سيدفع إلى تفجر الأوضاع هناك.. وعلينا أن ننظر إلى أن حماس لم تُوجِد الصراع، بل الصراع هو الذى أوجدها.. فهذه الحركة انطلقت فى بيئة من القهر والحرمان، وانتهاك الحقوق واستباحة الكرامة واستمرار الاحتلال».. هكذا قال وزير الخارجية الأردنى، أيمن الصفدى، الذى أوضح أن إسرائيل لن تنعم بالأمن بقتل الفلسطينيين، لأنها ترتكب جرائم حرب، فى خرق واضح للقانون الدولى، وأنها تهاجم كل من لا يتفق مع سياستها.. فالأمن لن يتحقق إلا بتسوية الصراع وحل الدولتين.. إسرائيل لم تلتزم بقرارات مجلس الأمن فى السابق، وإذا لم تلتزم فى المستقبل، فعلى المجتمع الدولى أن يواجه التحدى الأكبر لمصداقيته.. ترتكب جرائم حرب، فى خرق واضح للقانون الدولى.. وهنا علينا أن نتوجه بالسؤال إلى هذا المجتمع الدولى، عما سيقوم به «إن استمرت إسرائيل بالضرب بعرض الحائط إرادتكم وقراراتكم؟».. وهل سيُسمح لإسرائيل بأن تستمر فى قتل الأبرياء وتدمير بيوتهم؟.. أم سيتخذ المجتمع الدولى موقفًا واضحًا منسجمًا مع القانون الدولى؟.
■■ وبعد..
فإن عنوان مقالنا هذا، لم يكن استفهامًا عما حدث عند الجسر الرابط بين الأردن والضفة الغربية.. فكلنا يعرف أن التحقيقات الأوليّة فى حادثة إطلاق النار فى الجانب الآخر من جسر الملك حسين، خلصت إلى أن مطلق النار، المواطن الأردنى، ماهر ذياب حسين الجازى، من سكان منطقة الحسينية فى محافظة معان، وكان عبَر الجسر سائقًا لمركبة شحن تحمل بضائع تجارية من الأردن إلى الضفة الغربيّة المحتلة، وأنه أطلق النار من مسدس كان يخفيه على ثلاثة إسرائيليين فقتلهم، قبل أن يُقتل، فيما وصفته حركة حماس بأنه «عملية بطولية نفذها نشمى من نشامى الأردن، ردًا طبيعيًا على المحرقة التى ينفذها العدو الصهيونى النازى، بحق أبناء شعبنا فى غزة والضفة الغربية المحتلة»، ودفعت رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى القول، بأن «هذا يوم صعب، ونحن محاطون بأيديولوجية قاتلة يقودها محور الشر الإيرانى»!.. وكل ذلك تداعيات لأسباب.
ما قصدناه بعنواننا، هو السؤال عن الأسباب التى أدت إلى حدوث ما وقع، وسوف يقع منه الكثير.. فما يحدث فى غزة يندرج ضمن نطاق التعريف القانونى للإبادة الجماعية، ومع ذلك فإن البعض لا يزال يرفض الدعوة لوقف إطلاق النار.. ويكفينا أن ندرك طبيعة النظرة الحالية من أبناء الوطن العربى، التى أصبحت ترى الولايات المتحدة أكثر سلبية، بناءً على مواقفها من الحرب، وأنها فقدت مصداقيتها لدى الرأى العام العربى، لأنها غير جادة فى العمل على إقامة دولة فلسطينية فى الأراضى المحتلة منذ عام 1967 الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس ويتوافق الرأى العام العربى على أن الولايات المتحدة وإسرائيل، هما الأكثر تهديدًا لأمن المنطقة واستقرارها، بل إن تغطية الإعلام الأمريكى لمجريات الحرب على قطاع غزة، منحازة إلى إسرائيل، ولا تأتى على فلسطين إلا بالنذر اليسير.. لم تأتِ حاملات الطائرات الأمريكية وبوارجها وأربعون ألفًا من جنودها، قبالة سواحل إسرائيل لحمايتها، بل لتقوية شوكتها، والوقوف إلى جانبها، ودعم بلطجتها فى المنطقة.. فكان لزامًا أن ينفجر العنف، الذى ربما ازداد اشتعالًا فى قادم الأيام.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.