رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفارقة حرروا فرنسا!

مقاتلون من عدة دول إفريقية، جرت تسميتهم بـ«مقاتلى إينديجان»، كان عددهم يمثل ٨٠٪ من القوات، التى شاركت فى «إنزال بروفانس»، وتمكنوا، فى غضون ثلاثة أسابيع من السيطرة على جنوب شرق فرنسا، وأتاحوا للفرنسيين، بانتصارهم على القوات الألمانية، أن يضعوا أقدامهم على ترابهم الوطنى، فى مرسيليا وتولون وليون، بعد أربع سنوات من هزيمة يونيو ١٩٤٠، ثم عبروا نهر «الرون»، والتحقوا بجيش «باتون»، ليشاركوا فى تحرير باقى الأراضى الفرنسية من الاحتلال الألمانى.

هذه الملحمة البطولية، التى بدأت فى ١٥ أغسطس ١٩٤٤، أحيت فرنسا، أمس الخميس، ذكراها الثمانين، بحضور عدد من رؤساء الدول والحكومات، التى شارك جنودها فيها، يتقدمهم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، الذى أعرب عن امتنانه لمن وصفهم بـ«الجنود الأجانب»، والرئيس الكاميرونى بول بيا، الذى قال إن الأفارقة دفعوا، بشجاعتهم وجرأتهم، ثمنًا باهظًا لانتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، ولعلك تتذكر أن غالبية قادة العالم الغربى، كانوا قد أحيوا، فى فرنسا أيضًا، الذكرى الثمانين لعملية «إنزال نورماندى»، التى جرت فى ٦ يونيو ١٩٤٤، وزعموا أنها هى التى حررت أوروبا وأنهت الحرب العالمية الثانية، مع أن هدفها الأساسى، حسب غالبية المؤرخين، كان فتح جبهة جديدة، لتخفيف الضغط العسكرى عن الجبهة الروسية، التى شهدت أكبر المعارك وأضخم الخسائر البشرية.

كانت فرنسا، فى ذلك الوقت، واحدة من سبع قوى استعمارية أوروبية، تحتل دول القارة السمراء، وتستعبد شعوبها، وتسلب وتنهب ثرواتها. غير أن الاستعمار الفرنسى انفرد عن غيره، بأنه تمكن من فرض ثقافته، وصناعة نخب، أو عملاء، من البلاد المحتلة، يحاربون فكرة الاستقلال، ولأنه كان يدرك أن استمرار هيمنته على مستعمراته لن يتحقق فقط بالوجود العسكرى، قام بفرض اللغة الفرنسية، لمحو هوية المستعمرات وشل مقاومتها، وتكوين طبقة غريبة عن مجتمعها، تخدم المشروع الاستعمارى!

جرائم وحشية كثيرة، ارتكبها الاستعمار الفرنسى، فى ٢٠ دولة إفريقية، من بينها الكاميرون، التى فقدت ١٢٠ ألفًا من مواطنيها، خلال كفاحها المسلح، الذى بدأ سنة ١٩٥٥ وانتهى باستقلال البلاد فى ١٩٦٠، والرقم لا يُقارن، طبعًا، بعدد الذين قتلتهم القوات الفرنسية فى الجزائر، الذى زاد على ١.٥ مليون، خلال حرب التحرير فقط، التى بدأت سنة ١٩٥٨ واستمرت حوالى ٧ سنوات. وتكفى الإشارة، مثلًا، إلى أن المخرج الفرنسى رينيه فوتييه، Rene Vautier، قضى سنة كاملة خلف القضبان، لمجرد أنه أنتج وأخرج، سنة ١٩٤٩، فيلمًا وثائقيًا قصيرًا، مدته ١٧ دقيقة، عنوانه «إفريقيا ٥٠»، Afrique 50، تناول فيه جرائم الاحتلال الفرنسى فى إحدى قرى كوت ديفوار، وأطلق خلاله نداءً لإيقاظ الضمائر النائمة!

المهم، هو أن المقاتلين الأفارقة، الذين حرروا فرنسا، تم جلبهم، أو اقتيادهم، من الكاميرون والجزائر وكوت ديفوار والمغرب وتونس والسنغال ومالى وغينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، و... و... وكالعادة، انتهت «خدمة الغز» بسحب هؤلاء المقاتلين من صفوف المنتصرين، ونقلهم إلى مخيمات فى جنوب فرنسا، ليعيشوا فى ظروف بالغة السوء، قبل إعادتهم إلى بلادهم، دون تكريم أو حتى كلمة شكر!

لاحقًا، تحديدًا سنة ١٩٦٤، قام شارل ديجول بافتتاح نصب تذكارى لضحايا ذلك الإنزال، وبعد ٣٠ سنة أخرى، احتفل بالحدث، فرانسوا ميتران، فى ١٩٩٤، ثم جاك شيراك، فى ٢٠٠٤، وفرانسوا هولاند، سنة ٢٠١٤، غير أن الجنود الأفارقة لم ينالوا أى تقدير لشجاعتهم، إلا سنة ٢٠١٩، فى الذكرى الخامسة والسبعين، حين أقام الرئيس ماكرون حفل تأبين للذين ضحوا بأرواحهم من أجل تحرير فرنسا!

.. وأخيرًا، ندعوك، أو ننصحك، بمشاهدة فيلم «إينديجان»، Indigènes، أو «السكان الأصليون»، الذى أخرجه الفرنسى، ذو الأصل الجزائرى، رشيد بوشارب، سنة ٢٠٠٦، والذى ركز على أربعة رجال من الجزائر وتونس والمغرب، تم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية فى هذه الحرب، التى لا تخصهم، وانتصروا على الجيش الألمانى التاسع عشر، وأتاحوا للفرنسيين أن يضعوا أقدامهم على ترابهم الوطنى.