رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليهودية والصهيونية.. صراع يهدد إسرائيل "2"

كتبنا في المقال السابق أن الصراع اليهودي- الصهيوني كان يتخذ شكلًا أكثر حِدَّة واحتكاكًا، يستمر بوتيرة مؤرِّقة للحكومة حتى الآن، بين الجماعات الدينية والحكومة الإسرائيلية، حول الدولة ومؤسساتها وما إلى ذلك.. ولفهم هذا الصراع فإننا بحاجة إلى تتبُّع تاريخي سريع للفصائل الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي، التي تتفرَّع من اتجاهين رئيسيين هما: الاتجاه الإصلاحي، والاتجاه الأرثوذكسي/ الحريدي.

وقد تناولنا الاتجاه الأول.. وفي الجناح الآخر، لم يختلف الحال كثيرًا لدى الأرثوذكس اليهود، بل إنه كان أكثر حِدَّة وعنفًا.. فالأرثوذكسية هي أقرب التعبيرات عن الأصولية، التي نشأت بوصفها رد فعل للحركة الإصلاحية، لكنها- للمفارقة- وافقتها في الدفاع عن (الشتات) اليهودي حيث هو، والعداء التام لأي وسيلة تُعجِّل بإنشاء مملكة اليهود المزعومة، واعتبرت الحركة أن أي دعوة تنظر إلى اليهود نظرة سياسية أو قومية هي شيء مخالف للدين وبعيد عنه، بل اعتبرت الصهيونية- من الأصل- تعبد الإله الخاطئ.

ولأن الحركة الأرثوذكسية، المُسمَّاة بعد ذلك بالحريديم- أي الأتقياء- كانت أشد عداء للصهيونية من غيرها، فقد أجبر مجلس الحاخامات الألماني- حاخامات الاحتجاج- تيودور هرتزل عام 1897 على تغيير مكان المؤتمر الصهيوني الأول، من ميونخ إلى بازل، وأصدروا بيانًا مناهضًا عقب المؤتمر، أعربوا فيه عن اختلاف مساعي الصهاينة مع مبادئ جماعتهم الأصولية، وانتهجوا من هذه اللحظة خط المعارضة الأشرس للصهيونية من داخل الصف اليهودي.

في أكتوبر 1911، عُقِد في فرانكفورت، بألمانيا، اجتماع شارك فيه عدد من يهود ألمانيا والمجر ولتوانيا وبولندا؛ لمناقشة قضية لغة العبادة والموقف من الحضارة الغربية وما إلى ذلك، حتى اتُّفِق على الأُسس الأولى لقيام حزب "أجودات يسرائيل"- رابطة إسرائيل- بوصفه منظمة عالمية، وهو الحزب الذي ناصب الصهيونية العداء منذ تأسيسه ببولندا 1912، فسعى إلى توحيد المجموعات الأرثوذكسية الشرقية والغربية، بهدف تشكيل خيار بديل للمنظمات اليهودية في مواجهة الحركة الصهيونية.. ارتكز الحزب على الأفكار الأرثوذكسية وانطلق منها في وضع برامجه السياسية، واهتم بتشجيع التعليم التوراتي، حتى بدأ نشاطه على أرض فلسطين بالقدس عام 1919 على يد طائفة أرثوذكسية، واعتبر أن معارضة الصهيونية أحد أهم مبادئه الأساسية، فبدأ هذه المعارضة بحملات إعلامية واسعة ضد الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، وعارضها في شهادتها أمام عصبة الأمم، ورفض الانضمام إلى الجماعات الصهيونية وحافظ على انعزاليّته عنها.

كما قدَّم نفسه مُتحدِّثا باسم اليهود المعارضين للصهيونية، في محاولة لإنشاء تنظيم يهودي غير سياسي ليحل محل الحركة الصهيونية، حتى اغتيل يعقوب ديهان، المتحدث السياسي للحزب 1924، على يد العصابات الصهيونية آنذاك.
مع الإعلان عن قيام إسرائيل عام 1948، بدأت حِدَّة سياسات الحزب في الخفوت تدريجيًا، فتوافق مع بعض المواقف الصهيونية من الاستيطان والهجرة وإقامة الدولة، شريطة الالتزام بالشريعة اليهودية، مما جعل الحزب في النهاية أضعف من اعتباره عائقًا حقيقيًا أمام الصهيونية، الأمر الذي رفضه بعض أبناء الحزب وقرَّروا الانشقاق عنه ليمارسوا مناهضة الصهيونية بشكل مستقل.. وتُعَدُّ هذه الانشقاقات هي السمة الأبرز للتيار الأرثوذكسي بوجه عام؛ حيث ضم بداخله العديد من الأجنحة المتصارعة متباينة القوى، لكن رغم اختلاف وتعدُّد الأحزاب والجماعات الدينية المناهضة للصهيونية، لم يظهر حتى الآن ما هو أشد عداء للصهيونية وعنفًا من جماعتَيْ حريديم "ساطمر" و"ناطوري كارتا" على وجه التحديد.
بخلاف الكثير من الحركات والأحزاب التي هدأت وتيرة صراعها مع الحكومة الإسرائيلية بمرور الزمن، بقي اليهود الحريديم في جماعتَيْ "ساطمر" و"ناطوري كارتا" من أعنف اليهود المتدينين وأشدهم عداءً للحركة الصهيونية وحكومتها حتى الآن، الأمر الذي يؤكده د. محمد عمارة في كتابه "الحركات الدينية الرافضة للصهيونية داخل إسرائيل"، إذ يقول: "من المعروف أن الحركة الصهيونية لم ترَ منذ بدايتها عداءً من زعيم ديني يهودي مثلما رأت من الحاخام يوئيل تتلباوم، الزعيم الروحي لحركة ساطمر، الذي اتهم الصهيونية بالهرطقة وأنها مروق عن الدين".. بل إن الحاخام ذهب لأبعد من ذلك، حين اعتبر الهولوكوست عقابًا من الله للشعب اليهودي الذي خالف وصاياه على يد الحركة الصهيونية، بل إنه اتهم الصهيونية صراحة بأنها مَن دبرت الهولوكوست بالاشتراك مع النازيين، لإجبار يهود أوروبا الباقين على الهجرة نحو فلسطين.
سيطرت الحركة على واحدة من أكبر المنظمات اليهودية العالمية، وهي "اتحاد حاخامي الولايات المتحدة"، التي أصدرت بيانًا حادًّا عام 1982 تهاجم فيه الصهيونية ودولة إسرائيل، والأحزاب الدينية المنضمة إلى الحكومة- كحزب المفدال- بحجة أن هذا الانضمام يقلب موازين القوى، حين ينضم الملتزمون بالتوراة إلى الأشرار ويساعدونهم في إنشاء حكمهم، وقالوا بالنص إن هؤلاء المنضمين "مسئولون مسئولية مباشرة عن الأعمال التي يقوم بها هذا الحكم الكافر.. لقد اختاروا الانضمام إلى حكومة تتسابق مع الدول بغطرسة مخيفة.. إن روحًا من الإلحاد تسكن داخل كل مَن يعتقد بأن اليهود يتمكَّنون من كسر طوق الشتات وإنشاء دولة مستقلة قبل ظهور المُخَلِّص".. وعلى المنوال نفسه، تأتي حركة "ناطوري كارتا"- أو حراس المدينة- التي يعود ظهورها الفعلي لعام 1935، عندما انشقت عن حزب "أجودات يسرائيل"، بعدما بدأ ينصهر مع الصهيونية شيئًا فشيئًا، ويبلغ عدد أتباعها الآن قرابة نصف مليون نسمة في مختلف أنحاء العالم، وعشرات الآلاف داخل الأراضي المحتلة، متمركزين في حي "مئة شعاريم" بالقدس ومدينة "بني براك" حديثة التأسيس، التي أضحت أحد أهم معاقل الجماعات الدينية في البلاد.
وتتخذ عقيدة الحركة موقفًا عدوانيًا رافضًا تجاه الصهيونية للأسباب الدينية التي ذكرناها، وتعتبرها حركة كُفرية، كما أن أتباعها يقاطعون توقيت الدولة وإعلامها كله- عدا البرامج الدينية في الإذاعة- ويعتمدون توقيتًا خاصًا يبدأ فيه اليوم في منتصف النهار، ويمتلكون صحيفة خاصة لا تكف عن مهاجمة الصهيونية، هي صحيفة "السور"، التي يعني اسمها السور العازل بين اليهودية والصهيونية، كذلك يقاطعون العملة الإسرائيلية ويصكّون عملة داخلية خاصة بينهم، وكما يظهر في المواد الإعلامية عنهم، يلتزم أعضاء "ناطوري كارتا" بالأزياء اليهودية التقليدية، ومقاطعة التكنولوجيا بشكل كبير، وتتسم نساؤهم بالاحتشام في الملبس، ويقدسون السبت بصورة حادة، حتى إنهم يُجبِرون أصحاب المحلات خارج جماعتهم على الإغلاق، ويمنعون كل سبل العمل والحياة في الطرقات ما استطاعوا.
وللجماعة موقف حاد من الخدمة العسكرية، حتى إن الحاخام هيرتش يقول في هذا الصدد: "لماذا يفكرون في تجنيدنا وهم لا يُجنِّدون العرب؟.. نحن أكثر كراهية لهم من العرب، وإذا أعطونا سلاحًا فسنطلق النار عليهم".. كما أنها الحركة الأكثر دفاعًا عن حق الفلسطينيين في أرضهم.. ففي حديث أجراه الحاخام ديفيد فلدنان مع جريدة "الوطن" القطرية 2005، أكد: "إن الشعب الفلسطيني له الحق في استعادة أرضه كيفما شاء، ونحن واثقون بأن اليهود الذين يقطنون إسرائيل سيتركونها إذا عرفوا أن العرب لن يعمدوا إلى قتلهم، بعكس ما تشيع الصهيونية منذ عام 1948".. وقال الحاخام ديفيد وايس: "منذ قيام دولة إسرائيل، ونحن نقوم بمظاهرات ضد الدولة، ويضربوننا أثناء المظاهرات بلا رحمة".. وفي فبراير 2015، وجَّهت الحركة رسالة إلى الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، بعد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يهود أوروبا إلى الهجرة الجماعية، قالت فيها: "إن رئيس الوزراء الإسرائيلي تصرَّف مرة أخرى وكأنه حامي يهود العالم ومُمثلهم، الصهاينة يعتبرون أنفسهم مُنقذي اليهود، لكنهم في الحقيقة يُشكِّلون خطرًا كبيرًا عليهم، وهم السبب في زيادة العداء لليهود في العالم، ومشروعهم الصهيوني هو سبب كراهية اليهود".
لذا تعمل الحركة دومًا على تحذير اليهود من الهجرة إلى فلسطين، وهو ما نجده جليًا على لسان الحاخام ديفيد وايس، المتحدث باسم الحركة، إذ يقول: "الحاخامات الكبار في حركتنا دعوا إلى أنه لا يجب العيش في ظل الصهيونية، هناك عشرات الآلاف الذين تركوا فلسطين حتى لا يعيشوا في ظل الصهيونية.. لكن توجد مدرسة فكرية أخرى في الجالية اليهودية، لا تريد أن تترك إسرائيل، على أساس أنها تريد أن تحارب إسرائيل والصهيونية من الداخل".. وتعقيًبا على ذلك، يقول د. محمد عمارة إننا لا يجب أن نلجأ إلى المُسلَّمة البسيطة التي تقول: ما دام هناك يهود يرفضون الصهيونية في فلسطين فليتركوها ويرحلوا، لأن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك؛ فهناك فريق منهم يرى أنه يتحتم محاربة الصهيونية من الداخل، وهم يعتزلون الدولة تمامًا، وهناك مَن يراها أرضًا مقدسة للعبادة بصرف النظر عن إسرائيل، كما أنه كانت هناك أقلية يهودية فلسطينية، وتلك الأقلية تعتبر نفسها فلسطينية، لدرجة أن حركة "ناطوري كارتا" قاطعت الرئيس الراحل ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية- لبعض الوقت- بعد اعترافهم بإسرائيل عمليًا، مقابل سيطرة المنظمة على الضفة وقطاع غزة، إلى جانب دعم الحركة لأهالي المعتقلين والمصابين الفلسطينيين ماديًا وتعاطفهم معهم؛ إذ يذكر ديفيد لانداو، في كتابه "الأصولية اليهودية" إحدى رسائل الحركة التي ورد بها، "نحن اليهود الفلسطينيون المناهضون للصهيونية، نُعبِّر عن تعاطفنا معكم ومودتنا لكم، نحن إخوانكم الفلسطينيون".
مع هذا، يؤكد "عمارة" أن الرفض اليهودي للصهيونية يتفاوت بين الجماعات والأحزاب، ولا يجب تفسير كل المواقف الرافضة على أنها تعاطف مع الحقوق العربية المسلوبة، فبعض الحركات الرافضة للصهيونية- كحركتَيْ "ساطمر" و"حبد"- تتبنَّى رؤى عنصرية للآخر بصفة عامة، وللعرب بصفة خاصة، وترى أنه لا وجود للدولة اليهودية المقدسة إلا بعد طرد العرب من أرضهم.. يُشير أيضًا إلى أن الإغراءات المادية التي يُقدِّمها الكيان الصهيوني تلعب دورًا كبيرًا في تبديل بعض الحركات الدينية لمواقفها، حيث تتجه نحو الذوبان في الدولة، وأن الأساس العِرقي الذي قامت عليه هذه الحركات هو ما جعل من العسير جدًا توحيدها، فكانت عملية استمالتها- تباعًا- أسهل بكثير.
وفي النهاية.. لا تنفك العلاقة بين اليهودية والصهيونية، وما يتمخض عنها من إشكاليات، أن تعلن عن نفسها مرة بعد مرة.. فالصهيونية لا تكف عن توظيف الدين سياسيًا، والمتدينون لا يكفّون عن إعلان رفضهم للصهيونية وفضح زيفها.. لذا يبقى السؤال: هل تحمل إسرائيل عوامل فنائها بداخلها.. أم أن هذا الصراع يمكن احتواؤه وصهينة طرفه الأخير، المُتمثِّل في الحريديم الأصوليين؟..حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.