الغرق فى بحر الحيرة!
حالة من التخبط والارتباك تسود المشهد الحالي في منطقة الشرق الأوسط، ويغلف الغموض والضبابية ملامح الأحداث المرتقبة في الأيام المقبلة، وسط استعدادات كثيفة لحرب إقليمية وشيكة، تصاحبها جهود دبلوماسية تحاول الحيلولة دون تفجر الصراع بين الأطراف الإيرانية ـ الإسرائيلية ـ الأمريكية، خصوصًا وأن دولًا مثل الصين وروسيا قد دخلتا على خط الأزمة، مما يعني أن حربًا إقليمية باتت تلوح في الأفق، إن لم تسبق حمامات السلام طلقات السلاح.
ما إن يصدر تصريحًا من هنا، إلا ويأتي عليه رد من هناك، وما هي إلا ساعات، حتى يتغير الموقف الأول إلى موقف تال، يناقض ما سبق وإن صدر قبل تلك الساعات.. قال زعيم حماس، يحيى السنوار، إنه يريد إتفاق وقف إطلاق النار، وهذه هي الرسالة التي نقلها الوسطاء المصريون والقطريون إلى المسئولين الإسرائيليين في الأيام الأخيرة، قبل قمة حاسمة نهاية هذا الأسبوع، إلا أن موقفه هذا تأثر بالهجوم الإسرائيلي يوم السبت الماضي على مدرسة "التابعين" في غزة، مما أسفر عن مقتل مائة شخص على الأقل، إذ شككت حماس، أمس الأحد، في مشاركتها في الجولة المقبلة من مفاوضات وقف إطلاق النار، قائلة إنها طلبت من الوسطاء تنفيذ خطة لوقف إطلاق النار، على أساس المحادثات السابقة، مثل تلك التي طرحها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ومجلس الأمن الدولي في يوليو، و"حرصًا ومسئولية تجاه شعبنا ومصالحه، تطالب الحركة الوسطاء بتقديم خطة لتنفيذ ما عرضوه عليها وتم الاتفاق عليه في الثاني من يوليو الماضي، بناء على رؤية بايدن وقرار مجلس الأمن الدولي، وإلزام الاحتلال بذلك، بدلًا من الذهاب إلى جولات تفاوضية أخرى أو مقترحات جديدة".
وفي إسرائيل، قال مصدران إسرائيليان، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مستعد للتوصل إلى اتفاق، بغض النظر عن تأثير ذلك على ائتلافه الحاكم.. لكن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لا تزال أكثر تشككًا في استعداد نتنياهو للتوصل إلى اتفاق، نظرًا للمعارضة الشرسة من وزراء اليمين المتطرف في ائتلافه، و"لا أحد يعرف ما يريده نتنياهو".. ما هو واضح، أن نتنياهو يواجه جبلًا من الضغط هذا الأسبوع من الولايات المتحدة للموافقة على وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، إذ أوضح المسئولون الأمريكيون لنظرائهم الإسرائيليين، أنهم يعتقدون أن الوقت قد حان للتوصل إلى إتفاق لوقف إطلاق النار، من أجل تجنب حرب إقليمية أوسع، ودعا منتدى عائلات الرهائن والمفقودين، وهو صوت قوي في إسرائيل، إسرائيل وحماس إلى وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق الرهائن ووقف إطلاق النار، لأن "الاتفاق هو السبيل الوحيد لإعادة جميع الرهائن إلى ديارهم، الوقت ينفد.. لم يعد لدى الرهائن ما يدخرونه.. يجب توقيع إتفاق الآن!".. في الوقت نفسه، أوضح شركاء نتنياهو في الائتلاف، أنهم لا يريدون أن تبرم إسرائيل اتفاقًا مع حماس.. ووصف وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، اتفاق وقف إطلاق النار المقترح بأنه "اتفاق استسلام.. أدعو رئيس الوزراء إلى عدم الوقوع في هذا الفخ وعدم الموافقة على هذا التحول"، ووبخ المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، تعليقات سموتريتش، بأن "حججه خاطئة تمامًا".. إلا أن مستقبل نتنياهو السياسي، يعتمد إلى حد كبير، على شركائه في الائتلاف، الذين هدد العديد منهم بالفعل بمغادرة الحكومة والتسبب في انهيارها، إذا وافق على الصفقة.
في إيران، هناك مؤشرات على أن طهران ستعيد النظر في حجم وتوقيت انتقامها من إسرائيل، إذا كان هناك وقف لإطلاق النار في غزة، وهو احتمال زاد من الضغط على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق؛ من أجل تجنب خطر نشوب حرب إقليمية شاملة.. مع أن المرشد الإيراني، علي خامنئي، توعَّد إسرائيل بإنزال "أشد العقاب"، ردًا على اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، "بهذا العمل، جر النظام الصهيوني المجرم والإرهابي على نفسه أشد العقاب.. ونعتبر أنه من واجبنا الثأر لدماء هنية التي سُفكت على أراضي الجمهورية الإيرانية"، وقد وضعت المواجهة بين الرئيس الإيراني المُنتخب حديثًا، مسعود بزشكيان، وبعض المتشددين في الحرس الثوري مستقبل رد إيران على اغتيال هنية على المحك.. وباتت الحكومة الإيرانية منقسمة حول كيفية الانتقام من إسرائيل في أعقاب القتل.. يقال إن الحرس الثوري الإيراني يدعو إلى توجيه ضربة صاروخية مباشرة وشديدة على تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية الكبرى.. لكن الرئيس بزشكيان، المعروف بموقفه المعتدل نسبيًا، يقاوم هذه الاستراتيجية العدوانية. ويدعو إلى رد محسوب بدقة.
ما يزيد المشهد تعقيدًا، ما قاله وزير الخارجية الصيني، وانج يي، للقائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني، علي باقري كاني، من أن الصين تدعم إيران في الدفاع عن "سيادتها وأمنها وكرامتها الوطنية.. لأن اغتيال إسماعيل هنية في طهران، ضربة انتهكت سيادة إيران وهددت الإستقرار الإقليمي".. وأبلغ وانج علي باقري، أن مقتل هنية "قوض بشكل مباشر عملية التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة، وقوض السلام والاستقرار الإقليميين.. لذا، فإن الصين تدعم إيران في الدفاع عن سيادتها وأمنها وكرامتها الوطنية وفقًا للقانون، وفي جهودها للحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين، وتقف على أهبة الاستعداد للحفاظ على اتصال وثيق مع إيران".. وقد سبق لإيران الحصول على الدعم من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أرسل بالفعل وحدات رادار للدفاع الجوي إلى طهران، وعدد من بطاريات منظومة "إس ـ 400".. وهو ما أزعج تل أبيب، ودفعها للقول بأن هؤلاء بين "محور الشر الإيراني".
الكاتب الإسرائيليـ الأمريكي، باراك رافيد، الذي حدد من قبل موعد الضربة الإيرانية على إسرائيل، في الثالث عشر من أبريل الماضي، ردًا على ضرب مقر القنصلية الإيرانية في سوريا، أكد لوكالة "أكسيوس"، أن التقييم المُحدَّث لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، هو أن إيران مستعدة لمهاجمة إسرائيل بشكل مباشر، ومن المرجح أن تفعل ذلك في غضون أيام.. ويشير التقييم الاستخباراتي الجديد، إلى أن الهجوم قد يأتي قبل محادثات إتفاق وقف إطلاق النار في غزة، المقررة يوم الخميس، مما قد يعرض المفاوضات للخطر.. وقالت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة، "نأمل أن يكون ردنا في الوقت المناسب، وأن يتم تنفيذه بطريقة لا تكون على حساب وقف إطلاق النار المحتمل".. فما هي سيناريوهات الرد الإيراني المحتمل؟
لدى إيران خمسة خيارات رئيسية للرد، ولا يمكنها أن تفعل شيئًا، أو أن تقوم بأعمال بعيدة عن الأنظار، مثل الهجمات الإلكترونية، أو تنفيذ عملية قتل مستهدفة واحدة أو أكثر، أو شن هجمات نارية غير مباشرة، أو توجيه وكلائها للقيام بتوغلات برية في إسرائيل.. لقد وضع المرشد الأعلى الإيراني سمعته على المحك، وأي شيء يُنظر إليه على أنه عدم رد سيكون غير مقبول سياسيًا.. ستكون عمليات القتل المستهدف ضد الإسرائيليين الخيار الأقل تصعيدًا، لكن إيران تواجه عقبات سياسية وعملية.. يمكن لإيران أيضًا شن هجمات نارية غير مباشرة من خلال شركائها من غير الدول، مثل حزب الله، بالتعاون معهم، أو بمفردها.. وأخيًرا، يمكن لإيران أن تدفع وكلاءها إلى القيام بمزيد من التوغلات البرية التقليدية في إسرائيل.. هذا هو الخيار الأكثر تصعيدًا بالنظر إلى ذكريات السابع من أكتوبر، ولن تأمر إيران بمثل هذه التوغلات، إذا كانت جادة في تجنب الحرب.
يحدث التصعيد عندما يزيد طرف أو أكثر من أطراف الأزمة، من شدة جهودهم أو يوسعون نطاقها، منتهكين القواعد غير المكتوبة للنزاع.. ففي أبريل، على سبيل المثال، صعدَّت إسرائيل "ربما عن غير قصد" من خلال قتل العديد من أفراد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني رفيعي المستوى في دمشق، وهو هجوم غير عادي بالنظر إلى رتبة القتلى، وحقيقة أنه استهدف منشأة دبلوماسية.. وردًا على ذلك، صعدَّت إيران هجومًا غير مسبوق بطائرات بدون طيار وصواريخ ضد الأراضي الإسرائيلية.. تمكنت إسرائيل من حل الأزمة دون تصعيد الوضع أكثر، لكن القيام بذلك تطلب ضربة محسوبة للغاية، نقلت تهديدًا دون انتهاك القواعد غير المكتوبة، التي حكمت الصراع بين إسرائيل وإيران على مدى العقود العديدة الماضية.
ومن المحتمل أن توفر عمليات القتل المُستهدف ضد شخصية شبيهة بهنية في إسرائيل ردًا دون تصعيد دراماتيكي، لكن هذا الرقم غير موجود.. وتفتقر إسرائيل إلى هذا النوع من الوكلاء غير الحكوميين، الذين من شأنه أن يمنح طهران هدفًا يشبه إلى حد كبير هنية.. لذلك، من المحتمل أن تضطر طهران إلى تصعيد الصراع، من خلال استهداف المسئولين السياسيين أو العسكريين الإسرائيليين.. وتواجه إيران أيضًا مشاكل عملية مع مثل هذا الهجوم، إذ لا يوجد دليل على وجود بنية تحتية إيرانية سرية في إسرائيل، مماثلة لما كان مطلوبًا لقتل هنية.. يمكن لإيران أن تهاجم شخصيات حكومية إسرائيلية خارج إسرائيل، كما فعلت إيران وشركاؤها، مرارًا وتكرارًا على مدى العقود العديدة الماضية.. لكن مثل هذه الهجمات تخاطر أيضًا بتصعيد الصراع، من خلال نشره إلى مسارح جغرافية جديدة، ومواجهة مشاكل عملية خاصة بها: فالقتل المستهدف أو تفجير السفارة قد يستغرق وقتًا للتخطيط له، مما يضعف إشارة الردع التي ستسعى إيران إلى إرسالها.
ومن المرجح أن ترد إيران بهجمات نارية غير مباشرة، مماثلة إلى حد ما للهجوم الصاروخي والطائرات بدون طيار في أبريل الماضي.. لكن إيران تفتقر إلى الخيارات التي لا تخاطر بتصعيد دراماتيكي.. إن وكلاء إيران منخرطون بالفعل في حملة مكثفة تدريجيًا من الهجمات ضد إسرائيل، لذلك، يجب أن يتضمن الرد زيادة في الجهود لإرسال إشارة الردع المطلوبة، وبالتالي مواصلة دورة التصعيد، وربما حتى إلى حرب كارثية بين إسرائيل وحزب الله.. كما أن هجومًا تقليديًا مباشرًا من القوات الإيرانية من شأنه أن يرسل إشارة واضحة، لكن الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في أبريل الماضي، حمل تهديدًا ضمنيًا بشن غارات جوية ضد البنية التحتية النووية الإيرانية.. وقد تنفذ إسرائيل هذا التهديد، ردًا على هجوم إيراني آخر ضد إسرائيل نفسها، الأمر الذي سيشكل تصعيدًا كبيرًا آخر، وخطوة نحو حرب أوسع.. ويمكن لإيران أن توجه شركاءها في سوريا أو لبنان للقيام بتوغلات برية في إسرائيل نفسها.. إن تشابه أي هجوم بري مع السابع من أكتوبر، سيجعله الخيار الأكثر تصعيدًا المتاح.. لكن الأمر بتوغل بري، سيكون الخيار الأكثر احتمالًا لإشعال حرب أوسع، ومن شأن مثل هذا القرار، أن يشير إلى أن إيران لم تعد ترغب في العودة إلى الوضع الراهن، وسعت بدلًا من ذلك إلى التصعيد إلى الحرب.
إن منع اندلاع حرب أوسع نطاقًا، يتطلب الاعتراف بالضغوط التي يتعرض لها قادة إيران حاليًا.. فإن إرسال إشارة رادعة مع تجنب التصعيد، سيتطلب إبداعًا إيرانيًا شديدًا، ومن المحتمل أن تفشل الجهود الإيرانية لمعايرة الرد، ما لم تمتلك طهران قدرات لم تكشف عنها بعد لإسرائيل والعالم.. وإذا فعلوا ذلك، فسوف يستنتج الكثيرون أن الرد الإيراني التصعيدي، هو دليل مستمر على نوايا زعزعة الاستقرار، حتى لو كانت نية إيران هي استعادة الوضع الراهن، بدلًا من تصعيد الصراع.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.