رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"انهيار الصهيونية" قراءة فى مقال مُهم! (2)

الآن، وإذ تبدو "إسرائيل" في قمة تَوَحُّشها وعدوانيتها، تضرب- مشمولةً بحماية ومُباركة آبائها الأصليين، في أمريكا والغرب- وتُطيح، بلا عقلٍ، يمينًا ويسارًا، فتُدَمِّر غزة، وتصطدم باليمن، وتستفز العراق، وتعتدي على لبنان، وتتحدى "حزب الله" فتقتل قائده العسكري، "فؤاد شكر"، وتغتال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، "إسماعيل هنية" وهو في ضيافة وحِمى إيران، وتضرب عرض الحائط بالقانون الدولي والقيم والأعراف والمبادئ الإنسانية، وتتحدى الرأي العام: فهي لا تقيم لرأي العرب اعتبارًا، وتتحدى كل المؤسسات "الأممية" ولا تُلقي لـ"هرائها"، كما تصفه، بالًا!... ثم يأتي مَن هو من بني جلدتها، ومنهم المؤرخ "إيلان بابيه"، لكي يقول لها وبملء الفم: لقد أذن أوان رحيلك، وما هي إلّا فترة من الزمن لا تُمَثِّلُ سوى لحظة في عمر الدول؛ وبرهة في عمر الشعوب، حتى ينقضي وقتك، ويتبدد وجودك!...فعلام تنهض رؤية "إيلان بابيه"،  التي تستشرف ملامح المُستقبل غير المضمون لبقاء الكيان الصهيوني إذن؟!
يسرد البروفيسور "بابيه"- في مقاله المُهم، المنشور في مجلة "اليسار الجديد" مُؤخرًا تحت عنوان "انهيار الصهيونية"، ستة مؤشرات، يؤدي تجمُّعها وتفاعلها معًا إلى هذه النتيجة التي ترى أن الكيان الإجرامي، وإن تَجَبَّر، أو لأنه تَجَبَّر، فمآله- حتمًا- إلى زوال.
***
أول هذه المؤشرات وأخطرها يرجع إلى انقسام المجتمع اليهودي الصهيوني إلى مُعسكرين مُتصارعين لا يجمع بينهما جامع، أو يربطهما رابط، يجعله قادرًا على الصمود للتحديات المُحيطة، فهما " مُعسكران مُتنافسان غير قادرين على إيجاد أرضيىة مُشتركة".
ويُسمّي "بابيه" أول هذين المعسكرين بـ"دولة إسرائيل"، والآخر بـ"دولة يهودا"، فأما الأول فهو الذي يضم في مُعظمه "اليهود الأوروبيين من الطبقة الوسطى وأحفادهم، "الذين لعبوا دورًا فعّالًا في تأسيس الدولة في عام 1948، وظلوا مُسيطرين عليها حتى نهاية القرن الماضي"، وهم الذين يُدافعون عن "القيم الديمقراطية الليبرالية"، غير أن "بابيه" يُحَذِّرُنا من أن يسرح خيالنا فنتصور أن هذا حسنٌ بالنسبة للفلسطينيين والعرب، فإيمان هذا المُعسكر بـ"الديمقراطية" أمرٌ يخصهم وحدهم، لكن هذا الوضع "لا يؤثر على التزامهم بنظام الفصل العنصري المفروض على جميع الفلسطينيين، وأمنيتهم الأساسية هي أن يعيش المواطنون اليهود في مُجتمع ديمقراطي تعدُّدي يُستبعد منه العرب"!
أمّا المُعسكر الآخر، "مُعسكر يهودا" فهو يضم بالأساس مُستوطني الضفة الغربية المُحتلة، والذين يسعون بعنفٍ وضراوةٍ، لكي يُصبح الكيان الصهيوني "دولةً دينيةً تمتد على كامل فلسطين التاريخية"، ما يستدعي "خفض عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى"، و"بناء "المعبد الثالث بدلًا من الأقصى"، وهؤلاء يعتبرون اليهود (العلمانيين) "هراطقة مثل الفلسطينيين، إذا رفضوا هذا المسعى"!
ويلفت "بابيه" النظر إلى أن هذا المُعسكر يُشكِّل القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز "نتنياهو" في انتخابات نوفمبر 2022، والأخطر أن نفوذه يتزايد "في المستويات العليا في الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن بشكلٍ كبير"، وخصوصًا بعدما عَيَّنَ "نتنياهو" أحد كبار رموزه، الإرهابي "إيتمار بن غفير"، زعيم حزب "القوة اليهودية" اليميني المُتطرّف في موقع "وزير الأمن الداخلي"، وعضوًا في "مجلس الوزراء الأمني"، واحتلال مُتطرف شرس آخر، هو "بتسلئيل سموتريتش"، موقع وزير المالية، وهو ما مَكَّنه من استغلال موقعه في تمرير ميزانيات مالية ضخمة للصرف على مشاريع الاستيطان القائمة على الأراضي الفلسطينية المُغتصبة، واستغلالهما، (بن غفير وسموتريتش)، لهذه المواقع المُهمة في دعم توسيع الاستيطان، وتسليح المستوطنين بأسلحة حديثة، والتنفيذ المُوسَّع لخطط الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، والدفع باتجاه "طرد" الفلسطينيين من وطنهم، وتنفيذ مُخططات "الترانسفير" بكل عدوانية، والضغط  من أجل استمرار حرب الإبادة في غزة... إلخ.
وإزاء تفاقم هذه الظاهرة، وتنامي إيقاع الصراع بين "الإخوة الأعداء" في المُعسكرين قبيل وقائع "طوفان الأقصى"، التي أجَّلت تصاعد وتيرة الاحتراب الداخلي بينهما إلى حين، يشهد "بابيه"على خطورة هذه الظاهرة، لا على الوضع الفلسطيني وحسب، وإنما على حال "الدولة الصهيونية" ذاتها، فبتأثير احتراب مكونات هذه الظاهرة، وتداعيات الحرب في غزة: "غادر أكثر من نصف مليون إسرائيلي البلاد منذ 7 أكتوبر"، فارين من خطر "أن تجتاح البلاد دولة يهودا"!

***

أمّا ثاني هذه المؤشرات، فهو، حسب البروفيسور "إيلان بابيه"، تصاعد وتيرة الأزمة الاقتصادية التي تُطبق الخناق على الكيان الصهيوني. ويرصد ظاهرة تنامي الأعباء الاقتصادية بسبب الحرب، ومُشيرًا إلى أن "العبء الاقتصادي سوف يتفاقم إذا واصلت "إسرائيل" عزمها على خوض الحرب ضد "حزب الله"، خصوصًا أن أعدادًا مُتزايدة من الدول بدأت في اتخاذ إجراءات عقابية، ذات طبيعة اقتصادية، تجاه "إسرائيل" بسبب الاعتراض على حرب الدمار الشامل الإسرائيلية، وأن مشاريع اقتصادية ومالية بدأت تنقل مشروعاتها واستثماراتها ورءوس أموالها إلى الخارج.
ويُضاف إلى ما تقدّم، ما نجم عن هروب المستثمرين والسائحين، وحتى العُمَّال الأجانب، بل ونقل العديد من شركات التكنولوجيا المُتقدمة لمكاتبها وأعمالها إلى دول أخرى نتيجةً لمخاطر وتهديدات الحرب، ناهيك عن تهاوي أوضاع البورصة، وأسواق المال، وتدهور قيمة العُملة المحلية "الشيكل"، فضلًا عن التكاليف المُباشرة للحرب، التي وصلت ـ في بداياتها ـ إلى ما يقرب من مليار شيكل يوميًا حسب تقديرات وزير المالية الإرهابي "بتسلئيل سموتريتش"، أي ما يقرب من خمسة مليارات ونصف المليار دولار شهريًا، وأدى استدعاء نحو 350 ألف فرد، في إطار "التعبئة العامة" لجنود الاحتياط، إلى تصاعد قيمة "التكاليف غير المُباشرة للحرب"، نتيجةً لسحبهم من وظائفهم وأعمالهم، وأيضًا تكاليف الصرف على مستوطني "غُلاف غزة" الذين نُقلوا منه بعد 7 أكتوبر، وهو ما تسبّب فيما وصفه "سموتريتش" بـ"حالة شلل جزئي" للاقتصاد، أوضح بعض مظاهرها المُحلل الاقتصادي الاقتصادي الإسرائيلي "جوزيف زعيرا" بإعلانه أن "الاقتصاد الإسرائيلي مُقبل على ركود لا محالة، مع تراجع الإنتاجية المُتوقَّع وكُلفة الحرب الكبيرة على اقتصاد البلاد"، الأمر الذي أكَّدته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بتحذيرها من أن "نشوب حرب طويلة الأمد، من المُمكن أن يؤدي إلى فوضى اقتصادية شاملة في "إسرائيل" إضافةً إلى وقوع خسائر بشريّة مُدمرة".
وضاعف من هذه الهزّات الاقتصادية الضربات الصاروخية التي انطلقت من "حزب الله" واليمن والعراق، والتي شلّت العمل في مناطق اقتصادية إسرائيلية عديدة، من أبرزها ميناء إيلات، إضافةً إلى النتائج السلبية المُترتبة على تعطيل طُرق التجارة الرئيسية، وانعكاسات الاضطرابات في السوق الدولية والاقتصاد العالمي، وأثرها المُباشر، كما رصدت وكالة "موديس" للتقييم والتقديرات الاقتصادية الدولية، مُمَثلًا في: "انهيار الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 75%، (من حوالي 12 مليار دولار عام 2023، إلى أقل من 3 مليار دولار عام 2024)، ودفع البنوك الإسرائيلية إلى الاستعداد لمُجابهة "موجة حالات إفلاس ضخمة"، احتمالاتها "أكثر بسبع مرات عما هو متوقّع، ستتضرّر بسببها المصالح الاقتصادية الصغيرة في المقام الأول".
ولذا فإن هذه الأوضاع المُتفاقمة والشاملة، بنتائجها السلبية الواضحة، ونظرًا للطبيعة الخاصة للكيان الصهيوني وسيكولوجية مستوطنيه، ستتسبب، حسب ما يراه البروفيسور "بابيه" وغيره من المُراقبين والمُحللين، في موجات "هجرة عكسية" مُتصاعدة، يُساعد على استفحالها أن أغلب الإسرائيليين مُزدوجي الجنسية، أي يملكون الفرصة لحياة مُطمئنة آمنة رخيّة في ملاذ آخر آمن، فضلًا عن امتداد زمن الحرب وتعاظم الخسائر البشرية والمادية، يدفع بأعداد غفيرة منهم للهرب من واقع الموت والقتال في دولة "الحلم" الذى تحول إلى "كابوس"، إلى مواطن أكثر أمنًا وأعظم استقرارًا. (يتبع)