رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«انهيار الصهيونية».. قراءة فى مقال مُهم

يُمثل البروفيسور «إيلان بابيه»، المؤرخ اليهودى المتميز، حالة ثقافية/ سياسية خاصة، برزت من خلال إعلانه عن مواقفه المُعادية للنزوع الصهيونى والتطرُّف اليهودى الإسرائيلى، فى كتاباته التى تصاعدت وتيرتها الراديكالية من عام لآخر، ومن مُنجزٍ فكرى للثانى، بحيث أصبح أحد أعلى الأصوات الناقدة للسردية الإرهابية الصهيونية وأكثرها جرأة، من ضمن من أُطلق عليهم «المؤرخون الإسرائيليون الجُدد»، الذين توالت انتقاداتهم للتاريخ «الرسمى» الإسرائيلى، حتى وصلت عند بعضهم إلى سقفٍ غير مسبوق من الحِدّة والقطع على أثر «طوفان الأقصى» (٧ أكتوبر ٢٠٢٣) والوقائع التى تلته، وخصوصًا مع توحُّش العدوان الصهيونى الغاشم، ومُسلسل الإبادة الجماعية للشعب فلسطينى عامةً، ولفلسطينى غزة ورفح على وجه الخصوص!

ونذكر أن لـ«بابيه» العديد من الكتب والأبحاث والدراسات كلها تدور حول نقد السياسات المركزية الصهيونية، وتفنيد أكاذيبها القديمة والمعاصرة، والعمل على تقويض ادعاءاتها المُلفقة، وتفنيد أكاذيبها التاريخية، وهدم ركائزها التلمودية، وفضح أطماعها السياسية، ونزع الأغلفة البرّاقة التى اعتادت أن تُخفى فيها تجمُّلًا وخداعًا غاياتها الاستعمارية الحقيقية، ومن أبرز هذه الكتابات: «عن فلسطين» (بالاشتراك مع البروفيسور اليسارى الأمريكى، المُعادى للسياسات الأمريكية والصهيونية، نعوم تشومسكى)، «التطهير العِرقى فى فلسطين»، «أكبر سجن على الأرض سردية جديدة لتاريخ الأرض المحتلة»، «عشر خرافات عن (إسرائيل)»، «فكرة (إسرائيل) تاريخ السلطة والمعرفة).. وغيرها.

وقد نشر «بابيه» مؤخرًا، فى مجلة «اليسار الجديد»، مقالًا على درجة عالية من الأهميّة يستحق العناية واستيعاب مضمونه بدقّةٍ ووعى، لأنه يصدر عن شخصٍ دارسٍ، عالِمٍ ببواطن أمور المشروع الصهيونى وحقيقة نواياه المُبيَّتة والمُعلنة، من جهة، ومُدركٍ لأحواله الحاضرة ولحجم التشوّه فى بُنيانه والتفسُّخ فى قواعده، وواعٍ لخارطة الشروخ البنيوية التى تتمدد فى أركانه، من جهة أخرى!

ويرجع مصدر أساسى من مصادر أهمية هذا المقال إلى توقيت كتابته وصدوره، المواكب للحظة توحش الكيان الصهيونى، ودخوله معارك ضارية على جبهات مُتعددة، وضربه عرض الحائط بنداءات وضع حد للحرب الإبادة العرقية ضد شعب فلسطين، والاشتباك الدموى مع رموز العمل الوطنى الفلسطينى واللبنانى والإيرانى،... إلخ إلخ على نحو مانشهده جميعًا!

يطرح «بابيه» فى صدر مقاله سؤال البداهة الراهن، الذى يؤرق المجتمع الصهيونى فى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة؛ وأنصاره فى الخارج: «هل يُمكن للمشروع الصهيونى فى فلسطين- (أى) فكرة فرض دولة يهودية على دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية- بعد مرور أكثر من ١٢٠ عامًا على بدايته، أن يواجه احتمال الانهيار؟».

والحق أن هذا السؤال ليس بالجديد، فقد سبق وأن طرحه، وعبَّرَ عن مضمونه، العديد من المفكرين ورجال السياسة وكُتّاب الصحف الإسرائيليين، فى أكثر من مُناسبة، وآخرها فى العام الفائت «٢٠٢٣»، بمناسبة مرور ثلاثة أرباع القرن على اغتصاب فلسطين وتأسيس الكيان العنصرى الإحلالى فى أرض لم تكن لسارقيها فى يوم من الأيام! حيث تصاعدت التساؤلات حول ما إذا كانت «إسرائيل» بأوضاعها المُحتدمة التى كانت دائرة قبل ٧ أكتوبر، وخاصةً الصراعات بين التيارين «العلمانى» والدينى المُتطرّف، حول هوية «الدولة»: مدنية أم يهودية؟، وكذا الخلاف حول حدود استقلالية السُلطات القضائية، هل لا زالت قادرة على اجتياز عقدها الثامن؟، فى إشارة إلى تفكُّك وانهيار الدويلتين اليهوديتين المزعومتين: «مملكة داود وسليمان»، وهى الدولة الأولى لليهود، التى لم تصمد أكثر من ثمانية عقود، و«مملكة الحشمونائيم»، وهى «الدولة» الثانية التى انتهت، أيضًا، فى عقدها الثامن؟

ويُذكر أن «بنيامين نتنياهو»، قد حدّد فى عام ٢٠١٧، أن مهمته «المُقَدَّسة» الأساسية، هى «الاجتهاد لكى تعمّر إسرائيل ١٠٠ عام»، فيما أعلن الكاتب اليسارى «جدعون ليفى»، فى سياق الجدل الذى دار حول هذه المسألة، أن أحدًا: «لن يستطيع وقف عملية التدمير الذاتى الداخلى الإسرائيلى، فمرض (إسرائيل) السرطانى قد بلغ مراحله الأخيرة ولا سبيل لعلاجه»، وهو الأمر الذى أكده «آرى شليت»، المحرر بجريدة «هآرتس»، بقوله إن «لا طعم للعيش فى هذه البلاد، ولا للكتابة فى «هآرتس»... يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس. يجب النظر بهدوء، ومشاهدة دولة إسرائيل وهى تلفظ أنفاسها»، فيما أكد المؤرخ الإسرائيلى «بينى موريس» أن «إسرائيل مكان ستغرب شمسه، وسيشهد انحلالًا أو غوصًا فى الوحل، وخلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون ويكون اليهود أقلية فى هذه الأرض، إما مطارَدين أو مقتولين»!!، بينما توقّع «يوفال ديسكين»، الرئيس السابق لجهاز «الشاباك»، أن «إسرائيل لن تظل قائمة إلى الجيل القادم»! (٢٣/٥/٢٠٢٢ الجزيرة).

بل إن الشك فى مستقبل هذا الكيان، الذى كان صُنّاعه يُدركون أنه نبتة غريبة مزروعة قسرًا فى أرض ترفضها وتلفظها، كان أمرًا مُصاحبًا لكبار رموزه التاريخيين، وفى مقدمتهم «دافيد بن جوريون» أول رئيس للحكومة الصهيونية، ويروى «ناحوم جولدمان»، (رئيس المؤتمر اليهودى العالمى من ١٩٥١ إلى ١٩٧٨، ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية من ١٩٥٦ إلى ١٩٦٨)، فى كتابه «المُفارقة اليهودية»، أن «بن جوريون» كان على يقين تام أن الكيان الإسرائيلى مؤقت ولا يمكن أن يدوم. وأنه صارحه فى جلسة حميمة قائلًا: «اسمع يا ناحوم. لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمرى. فإن سألتنى ما إذا كان سيتم دفنى، إثر موتى، فى دولة (إسرائيل) لقلت لك نعم. فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة سيبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا سألتنى ما إذا كان ابنى (عاموس)، الذى سيبلغ الخمسين من عمره فى أواخر السنة الجارية، (١٩٥٦)، سيكون له الحظ بأن ُيدفن بعد موته فى دولة يهودية فسوف أجيبك: ٥٠/٥٠...»، قاطعه «جولدمان»: مذعورًا «كيف لك أن تنام على هذا التوقُّع فيما أنت رئيسًا لحكومة إسرائيل»؟!، فأجابه بعمق وهدوء من يحذر من الآتى: «ومن قال لك أننى أعرف ما هو النوم يا ناحوم»!

وعودة إلى سؤال «بابيه» الوجودى: «هل يُمكن للمشروع الصهيونى فى فلسطين بعد مرور أكثر من ١٢٠ عامًا على بدايته، أن يواجه احتمال الانهيار؟».

يرد «بابيه» على سؤاله بحزمٍ وجزم: «نعم»، ذلك أننا: «نشهد الآن عملية تاريخية»، أو «بشكلٍ أكثر دِقَّة بدايات عملية تاريخية، مِن المُرَجَّح أن تبلغ ذروتها بسقوط الصهيونية»! 

فعلى أى أُسس ارتكز هذا الرأى لواحد من أهم علماء التاريخ المرموقين، والعالمين الكِبار بتفاصيل ومسيرة ومفاصل الصراع الوجودى العربى الفلسطينى/ الصهيونى، البروفيسور «إيلان بابيه»؟.. هذا ما سنناقشه فى المقال المقبل.