احتمالات لا نهائية للغياب
احتمالات لا نهائية للغياب
إبراهيم عبدالفتاح
كغزالة كلما خشيت التورط فى شرك ركضت نحوه، وكما لو كانت نبوءة يونانية، أو لعنة مصرية قديمة، ترصد مجموعة آية طنطاوى «احتمالات لا نهائية للغياب» عن دار العين، حالات اختفاء مجموعة من النساء أنتجتهن عجينة صُنعت بقصدية كاملة من الجهل والخرافة والعوز، وكذلك من وصايا ذكورية خالدة.
وعلى الرغم من أن النساء هن محور وركيزة هذه المتوالية، فإنها فى تقديرى تتسع لتشمل الإنسان فى واقع يحاصره القهر والألم والخوف، النهايات كأنما مقررة سلفًا، والمصائر واحدة وإن اختلفت السيناريوهات بين القتل والفرار بإرادة من ينشد النجاة من الموت بموت أقل، نساء موصومات بالخطيئة، فى قصة «ساعة من زمن» يختلط الواقع بالحلم من خلال ممثلة التبست عليها مشاهد حياتها، فلم تعد تتبين حقيقة ما يحدث لها، وما إذا كانت تؤدى دورًا دراميًا داخل شريط سينمائى، أم أن تلك حقيقة حياتها والتى لا فكاك منها.
فى قصة انحصار، تهرب الجدة من مرقدها الذى لم ترغبه، بينما حشرت على غير إرادة منها بوصية الأب، وكما تقر الراوية، «عنيدة بما يكفى لتختفى دون اكتراث لحرمة الموت» حتى فى حكاية «يقظة من حلم» والمُقسمة إلى صوتين، فهذا عامر المطارد بمناماته وبرغبات الأم، والمنذور دائمًا للفشل والإخفاق، يقول له شوقى: إن النساء صمتهن كأنه الموت، عامر الذى لم يجد من يشاركه سره حتى فى القهوة وبين كل أصحابه لا أحد يسمع، أو كما يقول الراوى العليم، أى حياة تلك التى يعيشها رجل مع امرأة هى أقرب لجثة تحركها الأنفاس، وفى موضع آخر «هذا حلمه وهذا رأسه، لكنه مجرد ضيف»، بينما تصرخ صاحبة الصوت الآخر «سُرق منى لسانى وربما بلعته»، ولعلها تيمة أساسية ميزت هذه المجموعة وصبغت جميع القصص بغرائبية وفرادة فى تناولها، من «عربة ترحيلات» حتى «حكاية لا نعرفها»، وجميعها بحق رغم وحدة موضوعها تستطيع الصمود أمام قراءات عدة، حكايات ساخنة، لغتها رشيقة وأنيقة مشدودة ومُصفاة دون ترهل أو تزيّد، عززتها مقترحات بصرية طازجة، بل وتصور حركى يضع القارئ فى مواجهة الحدث بأدق تفاصيله، واقع بطلاتها وأحلامهن، المونولوجات الداخلية والأمنيات المجهضة، الانهيار وتصدع المنازل والرعب مع رقاب اُقتلعت وتطايرت بنصل الخديعة، الحيرة والفقد والأسئلة التى تكبر بلا إجابات، حضور طاغٍ للأسطورة والموروث العقائدى، أيضًا تدهشنى دقتها وركوزها كعازف مدرب تأتى جملته الموسيقية سليمة لا زيادة أو نقصان فيها، وعلى ندرة ما شاهدتها فإن لغتها أنيقة تشبهها تمامًا، تستوقفك بالتة ألوانها وتناغمها دون صخب يذكر، أو تجاور غير مستحب، وقلما تجد مبدعًا يتعادل خارجه وداخله بهذه الدقة، ربما هذا ما يمنحها ذلك اليقين والهدوء النفسى، كما يحصنها ثباتها الانفعالى من الاستجابة للمتاح، أو الهرولة خلف جملة أطربتها، المفردة هنا تتجاوز حقلها الدلالى إلى احتمالات لا نهائية أيضًا.