رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وحيدة

المولفة
المولفة

ديسمبر ٢٠١٨

«لقد تجاوزتُ كونى شبحًا

أنا الآن فى عالم الأحياء

لقد حسبتُ كل شىء

بخطواتٍ صامتة دلفتُ إلى الصالة

وهو فى غرفته».

كانت «أسما» قد غسلت الستائر توًا، تفوح فى أرجاء المنزل الرائحة الذكية المنبعثة من مُنعِّم الأقمشة، ضوء المطبخ مفتوحٌ، أباريق الشاى، تنانينُ مُتعَبة تستريح. لم يفرغ أحدٌ غسالة الأطباق، ربما علىَّ أن أُفرغها، إن ظهرى يؤلمنى بشدة، قد يُفيدنى بعض الانحناء والنهوض. الأطباق ذات نقشة الزهور الزرقاء على الرف العلوى، الأوانى فى الخزانة السفلية، والأكواب على الرف الأوسط، إمبراطورية من الأكواب. غريب، يبدو أننى قد اشتقتُ للمطبخ، أسمعُ صوت الماء، حوض الاستحمام على وشك الامتلاء. إذن، سأُلهى نفسى لبرهة فى المطبخ. التليفزيون مفتوح، يقولون إننا مستمرون فى التنمية، حسنًا، جميل، لنستمر إذن. ها هو صوت احتكاك قدميه الصغيرتين بالأرض. فى الماضى كان يُصيبنى بالجنون، أما الآن فلا أُلقى له بالًا على الإطلاق. لقد أغلق الباب، إنه يخلع ملابسه فى الحمام، يُلقيها على الأرض. والآن، ها هو فى حوض الاستحمام، يسعه الحوض بكل ارتياح، فهو قصير القامة، قزمٌ بالأحرى.. فتحتُ باب الحمام بهدوء. 

فى البداية لم يرنى.

وصَّلتُ مُجفِّف الشعر بمقبس الكهرباء، التفتَ عندما سمع صوته، بدا كأنه قد تفاجأ. عزرائيل بجوارى، ينتظر بكل صبر، التقت أعيننا، رمش بعينه غير الموجودة، ابتسمتُ. مُجفِّف الشعر فى يدى، أظن أنه كان سيسألنى: «خيرًا؟»، لم أُرِد أن أطيل الأمر، ضوءٌ أزرق قطع جملته فى منتصفها، فتخبَّط كذبابة رُشَّت بمبيد الحشرات «شلتوكس»، شاهدته، الكلام أسهل من الفعل بالطبع، تسعة وعشرون عامًا بالتمام والكمال.. لكن الأجل لم يقرر أن يأتى من نفسه ليوافيه أبدًا، لذا تعيَّن علىَّ القيام بالأمر بنفسى، نظر إلىَّ بعينين ذهلتين، لم يستطع أن يفهم، هل أنا من فعلت به هذا؟ قُضِىَ الأمر. على وجهه المصعوق بقى بعض الغضب، وبعض الألم، وكثيرٌ من الدهشة. ابتسم عزرائيل هذه المرة، ورمشتُ أنا بعينى، تم الأمر. نظرتُ إلى وجهه القبيح لمرة أخيرة.

سحبتُ فيشة مجفف الشعر من مقبس الكهرباء ووضعتُه فوق المرحاض، غمرتُ يدى فى حوض الاستحمام لأرفع السدَّادة، كانت تحت مؤخرته، فدفعته بصعوبة إلى الحافة، يا له من بدين، ثقيلٌ للغاية حقًا! انسحب الماء بسرعة إلى الثقب الصغير، أشعلتُ سيجارة بينما أنتظر أن يفرغ الحوض تمامًا، نفختُ دخانها فى وجهه. ماذا بإمكانك أن تفعل؟ لا شىء، فها هى روحك القذرة قد فارقت جسدك اللعين فى غمضة عين، لقد أصبحتَ لا شىء. عندما فرغ حوض الاستحمام أحضرتُ العبوات التى طلبتُ من «أسما» شراءها وتخبئتها فى خزانة المطبخ قبل بضعة أيام، وسكبتها فوقه. فلتحيا الكيمياء! تسكبُ المادة الحمضية، فيذوبُ كل شىء ويختفى، وإلا لكان تقطيع هذا الخنزير ذى المائة كيلوجرام سيُشكِّل عبئًا كبيرًا، ناهيك عن وضعه فى أجولة وحمله. ولكن هذا العمل ليس سهلًا تمامًا أيضًا، فلحمه وعظامه قد صنعا كثيرًا من الرغوة فى حوض الاستحمام، حتى إننى خفتُ للحظة من أنه لن يذوب تمامًا ويختفى. أمَّا فيما يخص ما يتبقى منه فى النهاية، فماذا سأفعل به؟ أعتقد أنه سيكون علىَّ حمله. 

المترجمة

ذاب كل شىء فى النهاية، عينه اليمنى هى من قاومت فقط، لماذا ذابت عينه الأخرى بينما بقيت هذه؟ ظلت مُحدِّقة هكذا لفترة طويلة، إلامَ تنظرين؟ أجيبينى إلامَ تنظرين؟ هل أزعجكِ ما فعلت؟ أخذتُها، وألقيتُها فى المرحاض، يبدو أن آخر شىء ستتمكن من رؤيته فى سنوات عمرك الثلاث والخمسين هو خراؤك.

استغرق الأمر ساعات حتى ذاب تمامًا واختفى، أو ربما مرَّت علىَّ كساعات. لحسن الحظ أننى جعلت «أسما» تشترى الكثير من الأحماض، فقد كفت وزيادة. فاحت فى الأجواء رائحةٌ كريهة، ففتحتُ النافذة، أحسستُ بالغثيان. علىَّ أن أنظف حوض الاستحمام، لكننى أحتاج للخروج واستنشاق بعض الهواء أولًا، أغلقتُ الباب. يبدو أن المسلسل قد بدأ، كان الرجل يُثخن المرأة ضربًا- بعيدًا عن السامعين جميعًا- أما المرأة فلم تُحرِّك ساكنًا. قشَّرتُ برتقالة، حيثُ إن رائحةً نتنةً تغلغلت فى أعماقى، لذلك خفَّف البرتقال من غثيانى بعض الشىء. أما على شاشة التليفزيون فقد كان الرجل والمرأة يصالحان بعضهما بعضًا مُتعانقين.. يا لشباب هذه الأيام! 

كان هواء الحمام قد تجدد، فأغلقتُ النافذة، وضعتُ مُجفِّف الشعر وعبوات الأحماض فى كيس بلاستيكى، ثم غسلت حوض الاستحمام جيدًا باستخدام مُبيِّض الملابس، وما إن رششتُ بعض المُعطِّر حتى أصبح كل شىء على خير ما يُرام، أصبحت رائحة الأجواء عطرةً كالمسك. قلتُ لنفسى «لألقِ نظرةً أخيرةً على المرحاض»، يا إلهى! ما هذا؟ ما زالت تُحدِّق فىَّ، سحبتُ طارد المياه، فدارت ودارت فى طريقها نحو الرحيل.. وداعًا أيتها العين الجاحظة! 

أخذتُ معى قليلًا جدًا من المتعلقات، لا أريد أن يبدو الأمر وكأننى وضَّبتُ حقيبة سفرى واختفيت. دعهم ينشغلون قليلًا فأنا بحاجة إلى الوقت حتى أجد «دفنى» ونختفى. أدخلت الرقم السرى للخزينة، أخذتُ الصندوق الذى ورثته عن أمى، وكل نقوده، ومحفظته، وهاتفه المحمول، ومفاتيح السيارة، ومسدسه، وجواز سفره، والأغراض نفسها خاصتى، بالإضافة إلى مُجفِّف الشعر وعبوات الأحماض، وحشرتُها كلها فى حقيبة السفر. لم أغلق التليفزيون حتى يظل هناك صوتٌ فى المنزل. جلست قليلًا، فما زال الوقت مبكرًا، أكلت برتقالة ثانية، نظَّفت أنفى، كانت الساعة الثالثة تقريبًا. المنزل فى غاية النظافة، كما كان وكما يجب أن يكون. ألقيتُ نظرةً أخيرةً على حياتى، أربعة جدران، لم أحبك أبدًا أيها المنزل؛ ففيك عشتُ كل أحزانى.

فى البداية، كنتُ أفكر، ربما علىَّ أن أحرق المنزل وهو بداخله، لكن عندما يعثرون على جثته بالطبع ستشير كل أصابع الاتهام إلىَّ. أما الوضع الحالى فهو أكثر غموضًا، اختفاء زوجٍ وزوجة. كنت أود أن أصفع الباب خلفى بعنف مثل عروسٍ جديدة خاضت شجارها الأول، لكن هذا غير ممكن.. يجب التزام الصمت. بهدوءٍ شديد أغلقتُ الباب للمرة الأخيرة، الباب الذى لا يجب فتحه مجددًا، انغلق الباب على كل الآثام، بما فيها آثامى.. رحلتُ.

صدرت حديثًا عن دار العربى للنشر والتوزيع