رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكتابة فى عز الحر

الكتابة فى عز الحر عقاب، لهذا كان الأستاذ الكبير نجيب محفوظ يتجنب الكتابة تمامًا فى شهور الصيف، وكان هيمنجواى يستيقظ بين الخامسة والسادسة صباحًا، وقد شرح السبب فى ذلك قائلًا: «أبدأ كل صباح ما إن يلوح الضوء، لا أحد يقاطعنى، وحجرة المكتب باردة»، وعلاوة على تجنب هيمنجواى الجو الحار، فإنه كان يكتب فقط وهو واقف أمام لوح خشبى عليه الأوراق البيضاء، ثم يسجل فى ركن الصفحة عدد الكلمات التى كتبها!

الجو الحار كما هو واضح عقاب صعب على الأديب، لذلك فإننى حين أكتب فى عز الحرارة أشعر بأننى أجلد نفسى بمقال للتكفير عن ذنبى حين اخترت طريق الأدب، أجلد نفسى كما يفعل الشيعة بأنفسهم تكفيرًا عن ذنبهم، وقد أشار ابن خلدون إلى التأثير السلبى للحرارة المرتفعة على البشر حين قال: «إن الشعوب السمراء تتصف بالطيش والطرب بسبب الحرارة التى تجعلهم أسرع فرحًا وسرورًا عن غيرهم»! الحرارة قرينة الطيش إذن! أما الفيلسوف الفرنسى «مونتسكيه» فقد تضمن كتابه «روح القوانين» ١٧٤٨، فى الجزء الخاص بعلم الإنسان أن «المناخ الحار يقترن بالضعف والمكر والجبن»! 

وبطبيعة الحال لا يمكن الأخذ بصحة ما قاله العالمان الاثنان بشكل مطلق، لكن فى ذلك إشارة إلى تأثير الحرارة السلبى، خاصة فى مجال التفكير والإبداع، حيث تتعدد طقوس الكتاب وتختلف، وعلى سبيل المثال فإن العظيم أونوريه بلزاك لم يكن يكتب إلا بعد منتصف الليل حتى الفجر ليتفادى الحرارة والضوضاء، إلا أن هناك طقوسًا أخرى لا علاقة لها بالمناخ، مرتبطة فقط بطبائع الأدباء وأمزجتهم، فكانت أجاثا كريستى صاحبة أكثر الكتب رواجًا فى العالم تخطط لحبكة رواياتها فقط وهى فى مغطس «بانيو» من الماء الدافئ، تسترخى فيه بالساعات حتى تقتنص الحبكة! الأديب الروسى نوباكوف صاحب الرواية الشهيرة «لوليتا» لم يكن يرقد فى مغطس لكنه على حد قوله كان يستيقظ فى السابعة صباحًا، ويبقى مستلقيًا فى السرير «أراجع وأخطط للأشياء، وفى الثامنة أتناول فطورى، ثم أبدأ العمل حتى موعد الغداء». 

وفى السياق نفسه، يقول الكاتب الأمريكى العظيم مارك توين إنه لا يستطيع العمل إلا وهو راقد فى سريره ليتصيد الحالة الخاصة بالصور العقلية الشبيهة بالحلم. أما مارسيل بروست صاحب «الزمن المفقود» فكان يتفادى الأصوات أساسًا حين يكتب؛ لذلك كان يكتب فقط فى حجرة عازلة للصوت! بينما لم يكن ليف تولستوى يستسلم لتغيرات المزاج أو الظروف أو المناخ، ملزمًا نفسه بنظام صارم قال عنه: «يجب أن أكتب كل يوم بلا توقف، ولا تهمنى الجودة بقدر ما يهمنى الالتزام بالروتين». 

الروائية الشهيرة إيزابيل الليندى تقول إن ابنها ساعدها فى تنظيم عملها حين برمج لها الكمبيوتر، بحيث يقوم يدق الجرس كل خمس وأربعين دقيقة لكى تنهض هى وتتجول، هذا أو على حد قولها: «يتصلب جسمى وأعجز عن الوقوف فى نهاية اليوم»! 

وبسبب طقوس عمل الفنانين الغريبة وفوضاهم وقلق أعمارهم عاطفيًا وعقليًا وفنيًا، شاعت فكرة شعبية مفادها أن «الفنون جنون»، وهى فكرة غير صحيحة على الإطلاق، لأن الفنون جميعًا تجرى نحو إعادة تنظيم العالم، وتنسيقه فى صورة جديدة، لهذا فإن الفنان إخصائى فى التنظيم وليس الفوضى، حتى فى عز حر شهر يونيو، الذى أكتب لكم فيه هذا المقال! لكنه التكفير عن الذنوب!!