رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اضرب أيها الجبان فلن تقتل إلا رجلًا


فى جمعية تضامن المرأة العربية 1984- 1991، والتى أسستها ورأستها أمى نوال السعداوى 27 أكتوبر 1930 - 21 مارس 2021 ، كانت لدينا أنشطة مختلفة متنوعة. كانت هناك ندوات السبت الأسبوعية التى لم تنقطع لمدة ست سنوات، واستضافت الشخصيات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية والسياسية، المرموقة حينئذ. وكانت هناك المؤتمرات الدولية التى نعقدها كل عام . أنشانا دار نشر تضامن المرأة العربية، والملتقى الثقافى، وكانت لنا الفرقة الموسيقية الغنائية يقودها ويشرف عليها الكاتب والموسيقار الراحل د . محمد فتوح 6 يناير 1955 - 13 أكتوبر 2008 . 
كان "محمد" يغنى من ألحانه الخاصة، ومن ألحان التراث الموسيقى الثرى، عبد الوهاب والسنياطى وفريد ومحمد فوزى والقصبجى وزكريا أحمد وسيد درويش والشيخ إمام.. والفرقة مكونة من أعضاء وعضوات الجمعية، ممنْ لهم مواهب صوتية وتلحينية متميزة. وكنا نعقدها مرة شهريا، اجتذبت الأمسيات الموسيقية الغنائية حشودا من جميع الأعمار، والاتجاهات والأذواق الفنية، وكان معنا "عصام عبد الوهاب" مطرب وملحن، وكان زميل "محمد" فى جامعة عين شمس/ كلية الآداب. 
وأكثر غنوة كانت تجد ترحيبا  كثيرا، واستجابة من الجمهور الذى كان يطلب إعادتها، هى أغنية "جيفارا مات" كلمات أحمد فؤاد نجم، وتلحين الشيخ إمام، وكان "محمد" هو المتخصص فى أدائها وعزفها على العود بمفرده، بتأثر وشغف ومهارة، على مدى ست سنوات. 
فى ذلك الوقت، كنت معجبة بالغنوة، من قوة وجمال وحساسية صوت "محمد". لم أكن أعرف الكثير عن "جيفارا". ومن هنا قررت أن أقرأ عنه، وأتابع سيرة حياته، ولماذا يكتب عنه أحمد فؤاد نجم، هذه الأغنية البديعة. 
وهكذا بدأت علاقتى بـ"جيفارا" 14 يونيو 1928- 9 أكتوبر 1967، تتعمق، وأدركت لماذا هو مثار إعجاب وشغف وحب واحترام، كل عشاق الحرية والعدل، والنضال الثورى فى كل مكان. 
بعد ثلاثة أيام تهل الذكرى الـ 95 لميلاد "جيفارا" التى يحتفل بها كل تلاميذه ومحبيه والسائرين على دربه فى كل مكان. 
رجل مثل "جيفارا" لا تنجبه البشرية، إلا مرة واحدة بعد مئات السنين. 
     كل شىء فى "جيفارا"، حقا نادر، ندرة الحرية التى وهبها حياته وشبابه وموته، اغتيال 
الرجل الوسيم نادر، الطبيب ذو الضمير نادر، الإنسان الحامل كفنه على يديه، من أجل أن يفرح الفقراء نادر، الرجل المهموم بالحزن فى عيون الأطفال نادر. وبالتأكيد هو رجل نادر الذى يقول: “عندما أموت لا تحزنوا بل افعلوا ما كنت سأفعله لو كنت حيا”.. و"أسقطوا الجنسية عنى فكل الأوطان وطنى".. "عند موتى يا أمى لا تبك، سأحرض سكان القبور على الثورة من تحت التراب". "أشعر بكل صفعة توجه الى مظلوم على وجهى".  
     آرنست تشى جيفارا 14 يونيو 1928الأرجنتين - 9 أكتوبر 1967 بوليفيا، أتذكره بمناسبة الميلاد الخامسة والتسعين، كرمز لاشتهاء الحرية والعدالة والاستهانة بالأخطار، وتحدى سلطات الاستبداد والاستغلال أينما كانت.     
       كان رائعا فى وسامته، وثورته ونبل إنسانيته ورحابة آفاقها. سيرة مرموقة، تثير الدهشة، لا تتكرر كثيرا. متفوقا فى الرياضة الركبى والسباحة و لعبة الشطرنج. 
      رافق فيدل كاسترو وحركته النشطة فى الحزب الشيوعى الكوبى، وتحرير كوبا من الديكتاتورية فى عهد باتيستا . 
      كان يجمع بين أعمال ومسئوليات الحزب، وكتابة اليوميات والمذكرات وإعداد الخطط ومعالجة المرضى والمصابين فى جيش التحرير الكوبى المسلح. وبعد نجاح الثورة الكوبية، بانتصار ثورة 26 يوليو 1953، وتم خلع باتيستا 1959، تقلد مناصب هامة فى العهد الجديد بقيادة كاسترو، وأصبح وزيرا للصناعة، وكان يرتدى بدلة العمال وينزل فى مواقعهم، ويأكل معهم، ويتحدث اليهم، لا نميزه بينهم، إلا بالسيجار الكوبى الذى يدمنه، وشعره الأسود الكثيف يلامس كتفيه، وشرارة الحرية لا تخمد.  
      ينضم إلى المظلومين المقهورين بسبب الاستغلال الرأسمالى الاحتكارى والإمبريالية والاستعمار الجديد فى أى مكان، فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا. غايته هى "عولمة الثورة". 
     فى عام 1964، قرر جيفارا التخلى عن مناصبه السياسية فى كوبا، ويغادرها إلى الكونغو فى إفريقيا، والى أماكن أخرى من العالم. وقال خطبته الشهيرة التاريخية للعالم فى الأمم المتحدة فى 11 ديسمبر 1964، مودعا المناصب والراحة والاستقرار: "لقد بدأت الموجة الكاسحة ولن تتوقف بعد الآن". 
     شعر الشعب الكوبى أنه يفقد الملهم والقائد والثورى، بهذه الرحلة، وكتب كارلوس بويبلا، عام 1965، أغنية من تأليفه وألحانه ، تعبر عن خلود فكر جيفارا ، عبر الأجيال فى كوبا وفى العالم، وأخذ اسمها من كلمات جيفارا فى خطبته الأخيرة 1964: "حتى النصر دائما". 
    وسافر جيفارا مع رفاقه فى جيش التحرير الوطنى الى الكونغو، لكن الشعب لم يكن جاهزا للانضمام إليه. كتب بعد هذه التجربة: "قد أفشل لكننى لا أعيد الفشل الواحد مرتين".
     أهداه عبد الناصر درع الجمهورية فى فبراير 1965 رغم اختلافاتهما حول أساليب التغيير والتحرر فى إفريفيا. 
     فى بدايات شهر مارس 2022، مات ماريو تيران الذى قام بإعدام أرنستو تشى جيفارا فى أدغال بوليفيا، بأوامر من المخابرات المركزية الأمريكية المدعمة للنظام الديكتاتورى البوليفى فى عهد الرئيس رينيه بارينتو. قال جيفارا لماريو تيران العسكرى الشاب قبل لحظة إعدامه: "أعرف أنك جئت لتقتلنى.. اضرب أيها الجبان، فلن تقتل إلا رجلا". 
     بعد اغتيال جيفارا، أصبح أيقونة عالمية ترمز إلى انتفاضات الشعوب ضد الظلم والقهر والاستغلال. واستعادة جزء صغير من نضاله، كاف لإلهام كل الحالمات والحالمين بالانعتاق من القيود، ومقاومة سارقى الأوطان والكرامة.
   وجيفارا كما أراه، هو فيلسوف، لا يناضل فقط بالسلاح، ولكن بالعقل المتفلسف المبدع للأفكار والرؤى التى تحركه. وأعتقد أن البطانة الفلسفية هى أساس النجاح والانتصار فى أى مجال.
"نموت من أجل الوطن، لكن من الأفضل أن نعيش من أجله" ..  
"المبدأ الذى يستحق العيش من أجله هو الذى يستحق الموت من أجله" ..   
"من مصلحة المستبدين تحويل الأديان الى مجرد طقوس".. 
"لا تضع مفتاح سعادتك فى جيب شخص آخر".. 
"القوة الحقيقية عندما يظنون أنك على وشك السقوط ولا تسقط".. 
"أحيانا لابد أن نصمت كى يسمعنا الآخرون ، الصمت أصعب فنون الكلام".. 
"لن أتوقف عن القتال حتى يحصل كل أطفال العالم على كوب لبن كل صباح"  
    أليست هذه مقولات لا تصدر الا عن فيلسوف بالفطرة؟؟. 
 فى سانتا كلارا، فى ساحة تشى جيفارا، يوجد الضريح الحامل اسمه، حيث دفن رفاته، هو 
و29 من رفاقه، ويوجد النصب التذكارى الخاص به، حيث يرتفع تمثال جيفارا شامخا، متحديا، بفدائيته وناريخه، وصوره التى تملأ كل مكان فى كوبا، وفى أمريكا اللاتينية. 
    فى عام 1950، ارتحل جيفارا على دراجة نارية مع صديقه البرتو جرانادو، عبر مدن أمريكا اللاتينية، حيث اكتشف معاناة وبؤس هذه القارة التى خضعت للاستعمار ونهب ثرواتها والابادة الجماعية. رحلة كتب يومياتها 1951، وكانت نقطة التحول من الطب إلى الثورة. 
     ما أحوجنا نحن سكان كوكب الأرض، نساء ورجالا، أن نستلهم من ذكرى ميلاد جيفارا،  قوة أكبر على اطلاق كل طاقاتنا، لصنع عالم يختفى فيه استغلال وقهر واستعباد البشر أينما كانوا . كتب محفزا: "الطريق معتم ، منْ سينيره اذا احترقنا أنا وأنت؟".

من بستان قصائدى 
--------------------- 
     
فى بلاد ما 
على كوكب الأرض  
كاتبة الرأى الحر 
تُمنح أرفع الأوسمة  
يملأون الطرقات بصورها
يسمون الميادين باسمها 
يهدونها القلادات والورود 
فى بلاد أخرى 
على كوكب الأرض 
كاتبة الرأى الحر
تدخل المصحات والسجون
مصحوبة باللعنات والشماتة  
يختمونها بالكفر والعمالة 
سجينة الأسوار والسدود