رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب على الأراضى الروسية!

خرج إلى النور مؤخرًا ما سمى بـ«فيلق حرية روسيا»؛ لينسب إلى مقاتليه المتطوعين بحسب زعمه على لسان المتحدث باسم الجناح السياسى لفيلق حرية روسيا «أليكسى بارانوفسكى»، أن الهجمات التى يشنها الفيلق والمعارك الخاطفة التى تجرى منذ التوغل الكبير الذى نجح يومى ٢٢ و٢٣ مايو بضواحى قرية نوفايا تافولغانكا بمنطقة «بيلغورود» الروسية، ليست مدعومة من الحكومة الأوكرانية، بل إن هذا الفيلق يتألف من روس يحاربون نظام الرئيس فلاديمير بوتين فى مسعى لتأسيس بلاد تكون جزءًا من «العالم الحر»، ولذلك هم يقاتلون القوات الروسية داخل مناطق تقع داخل الحدود الغربية لروسيا. والهدف الظاهر لهذا القتال الذى بات مؤثرًا على ما يبدو، هو تشتيت الدفاعات الروسية وإجبار القيادة فى موسكو على تحويل مسار القوات المسلحة من داخل أوكرانيا لدعم الحدود، وتقديم الإسناد القتالى لتلك الجبهة الجديدة التى فتحت دون استعداد مسبق منها.

روسيا أسرعت بالطبع باتهام تلك المجموعة وأخرى تسمى «فيلق المتطوعين الروس»، أنهما مجموعتان «إرهابيتان» تحاربان بالوكالة لصالح كييف، رغم أن مجموعة المتطوعين الروس معلوم لدى الأجهزة الأمنية الروسية، أن مؤسسها روسى قومى يمينى متطرف يدعى «دينيس كابوستين»، هو الذى يقوم بالتخطيط ويكلف مقاتليه بشن الهجمات داخل وحول المدن الروسية، وتعتنق مجموعته علنًا أيديولوجية دولة روسية «أحادية العرق»، لذلك نفت أوكرانيا فى بيانات رسمية تورطها فى هذا الأمر، بتأكيد من «يورى ساك» مستشار وزير الدفاع الأوكرانى أن «فيلق حرية روسيا» الذى يستخدم العلم الأبيض والأزرق والأبيض، يراه جزءًا من المعارضة الروسية، فيما تعتبر مكونات المعارضة المختلفة لنظام الرئيس بوتين أن هذا علم «روسيا الحرة»، وهو ليس تابعًا لكييف ولا يرتبط باستخباراتها.

السلطات الروسية دعت، الأحد الماضى، سكان منطقة على الحدود مع أوكرانيا، إلى مغادرة منازلهم عقب اشتداد القصف الأوكرانى، وارتفاع درجة خطورته هذا الأسبوع عن ذى قبل. فقد تعرضت مدينة «شيبيكينو» (٤٠ ألف نسمة) الواقعة فى منطقة بيلغورود الغربية على الحدود مع أوكرانيا (٥ كم من الشريط الحدودى)، لقصف يومى أدى إلى مقتل العديد من المدنيين، ودفع السكان إلى الفرار بعد أن طال القصف «منطقة التسوق» المركزية للمدينة. بيد أن هجوم هذا الأسبوع كان الأشرس، ما أدى إلى توقف الحياة فى المدينة بشكل كامل، حيث انتشرت على منصات التواصل الاجتماعى لقطات مصورة للدخان الكثيف يسود المدينة وسط مبان مدمرة، وحطام لقذائف صاروخية وبعض من مخلفات المسيرات تملأ الطرق. وبحسب ما أعلنته السلطات المحلية، أسفرت الهجمات عن مقتل امرأتين وإصابة نحو ١٢ شخصًا. لهذا ظهر حاكم المنطقة «فياتشيسلاف غلادكوف» على وسائل الإعلام المحلية وهو يحث السكان على التعاون مع السلطات الروسية وإخلاء المنطقة، بل واضطر لاستخدام تطبيقات التواصل الذكية «تليجرام» كى يرسل للسكان رسائل نصية، يؤكد فيها أن إخلاءهم من مساكنهم إجراء مؤقت للحفاظ على أرواحهم بعد تعرض مناطقهم لأضرار جسيمة. أكثر من «٤٠٠٠ شخص» روسى من سكان المناطق الحدودية الغربية، باتوا اليوم مقيمين بشكل كامل فى مساكن مؤقتة بمناطق أكثر أمنًا بالقرب من «بيلغورود»، فيما بدأت السلطات بالفعل هذا الأسبوع بنقل القاصرين من القرى الحدودية، وأطفال جنود الجيش الروسى الذين يقاتلون فى أوكرانيا إلى مخيمات للشباب فى ذات المنطقة. 

يمكن ملاحظة استيعاب النظام الروسى وردة فعله إزاء تلك الهجمات، التى لا يمكن إغفال أنها تحمل ملامح تغيير ميدانى بارز، بأنه تعامل معها بالهدوء اللازم للمحافظة على تماسك الجبهة الداخلية التى تابعت المقاطع المصورة، القادمة على هواتفهم من سكان غرب روسيا بقلق مكتوم انتظارًا للردود المتوقعة من الكرملين الذى بدوره يحاول طوال الوقت انتهاج خطاب تطمينى، لديه القدرة طوال الوقت لتحويل الإخفاقات إلى نجاحات وتجنب الحديث باستفاضة عن الهجمات التى تتعرض لها روسيا، حتى يظل فى هذه الحالة غير ملزم بالرد أو الشرح والاعتذار. والمراقب لأداء قيادة الكرملين التى تستلهم هذا الأداء من الرئيس بوتين شخصيًا، يدرك بوضوح أنه فى تعاملاته مع المؤسسات المحلية ومع النخبة الروسية منذ فترة بدء العملية العسكرية فبراير ٢٠٢٢، لم يحد عن شعار مفاده «لا تهول الأمر» بحسب ما هو شائع فى الداخل الروسى طوال فصول العملية المتقلبة والمختلفة.

مجموعات المتطوعين «فيلق حرية روسيا» و«فيلق المتطوعين الروس»؛ يراقبان ما يجرى بالداخل الروسى عن كثب بالطبع، وهم أكثر تداخلًا مع اتجاهات الرأى العام الشعبى، وكثيرًا ما يلعبون ويضغطون على أوتاره، من أجل نيل مزيد من الشهرة والذيوع فى الشرائح المجتمعية التى يتنامى تململها من وطأة الحرب، لا سيما والقيادات العسكرية والسياسية الروسية من حين لآخر فى معرض تصريحاتهم الإعلامية الموجهة للغرب بالخصوص، يفتحون السقف الزمنى لتلك الحرب على امتداده، باعتبار ذلك تعبيرًا عن القدرة والجاهزية لخوض حرب طويلة. وقد كانت نشأة تلك المجموعات من متطوعى المقاتلين الروس فى مراحلها المبكرة، تنطلق من هذه الحالة العامة التى يسودها قلق كبير، واستشعار الغضب من القيادة الروسية التى أدخلت المنطقة الحدودية فى كلتا الدولتين فى هذا الصراع المعقد، علمًا بأنها فى الأصل تعانى من التشابكات العرقية التى تجعلها على صفيح ساخن على الدوام. «فيلق حرية روسيا» كان أول ظهور له على مسرح الأحداث فى منطقة شرق دونيتسك، المتنازع عليها منذ العام ٢٠١٤، مع بداية العملية العسكرية التى انطلقت فبراير ٢٠٢٢ تلقى تدريبًا لمدة شهرين، ومن ثم انتشر اعتبارًا من مايو فى العام نفسه بمجمل إقليم الدونباس فى شرق أوكرانيا الذى تحاول موسكو ضمه للأراضى الروسية بالكامل.

اعتبارًا من هذا التاريخ المتقدم من عمر العملية العسكرية الروسية، ينشر الفيلق بشكل أساسى مقاطع فيديو دعائية على مواقع التواصل الاجتماعى، وبالخصوص «تويتر» و«إنستجرام» يزعم فيها أنه تلقى آلاف طلبات الانضمام لصفوفه. فى ترويج ممنهج إلى أن هؤلاء هم «الوطنيون الروس» الحقيقيون. هذا فى قراءة تداعياته الأولية؛ ينذر بشروخ عميقة ومؤثرة فى المجتمع الروسى، الذى يهمه بصورة أساسية أن يبدى أقصى درجات التماسك خلف القيادة التى تدير صراعه مع الغرب، وفق ما يروجونه كذريعة للحرب على الأراضى الأوكرانية!