رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهوية الثقافية .. وفرسان الحوار


إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى
وعيشك موفور، وعِرضُك صيِّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبًا
فصُنها، وقُل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى
وفارق، ولكن بالتى هى أحسن
تلك الأبيات البديعة التى تشى بحالة من السلام والدعوة إلى التسامح الإنسانى للإمام الشافعى الذى عشنا مع دراما سيرة حياته على مدى أيام شهر رمضان الماضى وسعدنا بروعة إعداد المسلسل كمنتج درامى إبداعى فريد.. تلك الأبيات كانت تصادف عيون الزائر لمنزل الأديبة النابغة، والمُفكِّرة العربية «مى زيادة»، التى جمعت بين أدب العاطفة، وأدب النفس، فقد كتبت تلك الأبيات بخط ذهبى وفى برواز ملفت يحوى شِعارها فى الحياة وعلقته على حائط فى مدخل مسكنها..
وقد تجدد السؤال فى السنوات الأخيرة حول هوية الآنسة مى زيادة التى اشتهرت كأديبة كما اشتهرت كظاهرة أدبية واجتماعية ملهمة للكثير من رواد صالونها الأدبى الذى كان يُعقد مساء كل يوم ثلاثاء فى منزلها المجاور لمبنى جريدة الأهرام القديم، فهل الأديبة الآنسة مى لبنانية أم مصرية؟
وإذا كانت قد عبرت عن هذا التمزق شعرًا، فقد عبرت عنه نثرًا أيضًا  كتبت (ولدت فى بلد، وأبى من بل، وأمى من بلد، وسكنى فى بلد، وأشباح نفسى تنتقل من بلد إلى بلد، فلأى هذه البلدان أنتمى، وعن أى هذه البلدان أدافع؟)..
ولعل المنتج الإبداعى والتنويرى للرائعة «مى» يثير أهمية مناقشة العلاقة الجدلية بين الإبداع والهوية، فالمرسل مبدعًا هو من ينتمى إلى ثقافة تشكل أصول خطابه المعرفية، والمتلقى متذوقًا هو من ينتمى أيضًا إلى ثقافة تحكم أصول تلقيه المعرفية، والخطاب رسالة بينهما هى شفرة، تتضمن مجموعة من الرموز التى تحمل إشارات خاصة بثقافة المرسل والمتلقى على السواء، وهى تمكّن الطرفين معًا من التواصل من خلال تحديد هدف الخطاب ومضمون الرسالة.. 
ونحن نتحاور حول أهمية الحفاظ على الهوية الثقافية على طاولة «الحوار الوطنى» لابد يدفعنا الحديث حول حال وواقع الإبداع فى بلادنا وكيف يساهم أهل الإبداع فى دعم ثقافة الهوية الوطنية، فالمتلقى لرسالة المبدع أراه كمبدع سلبى وهو يحاول فك رموز الرسائل الإبداعية والتعامل مع مصادرها المعرفية والثقافية واللغوية واللونية والإيقاعية، بينما المرسل هو فى النهاية مبدع إيجابى فاعل..
ولا شك أن أمر تعزيز الهوية الثقافية هى مهمة ينبغى أن تشارك فيها مؤسسات وقطاعات متعددة، وفى مقدمة هذه القطاعات قطاع التعليم، الذى يمكنه القيام بدور كبير فى مجال تعزيز الهوية الثقافية، حيث إن التعليم منوط به تربية النشء، وغرس القيم فى عقولهم وقلوبهم منذ سنوات أعمارهم الأولى، فالتعليم يقوم بدور كبير فى مجال دعم قيم الولاء والانتماء، والتأكيد على الثوابت القومية، وبالتالى له دوره الكبير فى مجال تشكيل الهوية الثقافية وترسيخ ثوابتها ودعائمها الأساسية لدى فلذات أكبادنا.. 
وفى هذا السياق ينبغى التأكيد على تعزيز التفاعل الإيجابى مع معطيات الثقافات الأخرى، بحيث يقوم هذا التفاعل على الندية والتأثير المتبادل، والإفادة من عناصر التميز فى ثقافة الآخر بتشابك إيحابى ودون ذوبان.. 
وعليه، فإن الهوية الثقافية هى النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذى يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذى يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع، مع الاحتفاظ بمكوناتها الثقافية الخاصة وميزاتها الجماعية، التى تحددت بفعل التاريخ الطويل واللغة القومية والسيكولوجية المشتركة وطموح الغد..
فى قول لعباس العقاد «المسلمون والأقباط سواء فى تكوين السلالة القومية ـ ولا فرق بين هؤلاء وأولئك فى الأصالة والقدم عند الانتساب إلى هذه البلاد، فوحدة الجنس والأصل أقدم من كل دين».. بل إن عميد الاحتلال الإنجليزى فى مصر اللورد كرومر، قال فى كتابه «مصر الحديثة» إن «خبرتى الخاصة بالمصريين تجعلنى أقرر أن الفرق الوحيد بين القبطى والمسلم هو أن الأول يعبد الله فى كنيسة فى حين أن الثانى يعبد الله فى مسجد».. وقد نشر مؤخرًا أن سيدة مصرية تقيم فى أستراليا قد أجرت تحاليل قالت إن نتائجها أكدت أنها مماثلة مع مومياوات العصر الصاوى، لدرجة وصلت إلى 100% سواء فى الملامح والجينات بنسبة تطابق كبيرة مع المصريين القدماء..
إن الحفاظ على الهوية الثقافية للمواطن المصرى والذى عملت قوى الشر منذ أكثر من 80 سنة على تغييرها، بل ومحوها هو لب عملية التربية بمعناها العام، حيث تعنى التربية ـ فى الأساس بنقل ثقافة المجتمع، أى هويته، إلى الأجيال الجديدة، بما فى ذلك خصائص النمط الثقافى، إضافة إلى ذلك فمن المحاور الأساسية للتربية السياسية التقليدية، وكذلك التربية المدنية، دعم الهوية أو الانتماء الثقافى، باعتبارها الشعور بالارتباط بالجماعة السياسية وتمثل أهدافها والفخر بالانتماء لها والإشارة الدائمة إلى هذا الانتماء وبخاصة فى لحظات الخطر، وغرس مفهوم الوطن والولاء له والإخلاص للأمة والتفانى فى خدمتها..
وفى النهاية، فإن الثقافة الفاعلة القوية هى تلك التى تسيطر على الثقافات الضعيفة، وإن ما يحدث من استيعاب ثقافة قوية لأخرى ضعيفة يعد أمرًا منطقيًا، حيث تزداد سيطرة الأولى بما تملكه من معرفة وتكنولوجيا تؤثر فى عقول الآخرين.