رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مذكرات مستر همفر (1)

مستر همفر. ضابط وجاسوس بريطاني زرعته بريطانيا أيام امجادها العظمى في الجزيرة العربية، وقتها كانت تفكر في بقاء إمبرطوريتها واسعة الأرجاء لا تغرب عنها الشمس. التقى همفر بمؤسس الحركة الوهابية محمد بن عبدالوهاب لما كان في البصرة جنوبي العراق.

ومن هناك تم بناء اولى الروابط في العلاقات الحميمة بين ابن عبدالوهاب وبين وزارة المستعمرات في الحكومة البريطانية التي استخدمته وحاربت من خلاله الدولة العثمانية فأضعفتها داخليا، وتسببت لاحقا في انهيار الخلافة الاسلامية في اسطنبول، ثم حولت بريطانيا ابن عبدالوهاب ليكون اداة لنشر التشدد الديني وقتل المسلمين في الطائف ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين حيث كانت الوهابية بعد ان أصبح لهم جيش يغيرون على القبائل والقرى فيقتلون الرجال.

يكشف همفر في مذكراته التي وضعها بعد عودته إلى وطنه الأم بريطانيا جزءا مثيرا من هذه الحكاية وفي الموضوع يذكر أنه وقتها كانت بريطانيا على الهند والصين والشرق الأوسط، إلا ان سياستها لم تكن تفرض السيطرة الكاملة، فقد كانت تترك البلاد تدار بيد اهاليها، وكانت سياستها ناجحة وفعالة، وكانت سياسة بريطانيا وقتها هي: السيطرة على ما تم السيطرة عليه فعلا.

وضم ما لم تتم السيطرة عليه، وخصصت بريطانيا وزارة المستعمرات لجانا لكل قسم من اقسام تلك البلد، وكان همفر موضع ثقة الوزير، فعهد إليه بمهمة " شركة الهند الشرقية".
يقول همفر في مذكراته: كنا شديدي القلق من علماء المسلمين، فعلماء الازهر، وعلماء العراق، وعلماء فارس كانوا أمنع سدا أمام آمالنا، فأنهم كانوا في غاية الجهل في مبادئ الحياة العصرية، وقد جعلوا نصب أعينهم الجنة التي وعدهم بها القرآن. فكانوا لا يتنازلون قدر شعرة عن مبادئهم، وكان المسلمين يتبعونهم والسلطان يخشاهم. صحيح أن أهل السنة كانوا أقل اتباعا لعلمائهم، فأنهم يقسمون الولاء بين السلطان وبين شيخ الإسلام.

وأهل الشيعة كانوا أشد ولاء للعلماء لأنهم يخلصون الولاء للعالم فقط، ولا يعيرون السلطان أهمية كافية، إلا أن هذا الفرق لم يكن ليخفف شيئا من القلق الذي كان يساور وزارة المستعمرات بل كل حكام بريطانيا العظمى.
كانت التقارير التي تأتيهم من العملاء والجواسيس بانتظام مخيبة لآمال. 
يقول همفر أنه في عام (1710) اوفدته وزارة المستعمرات إلى كل من مصر والعراق وطهران والحجاز والآستانة لأجمع المعلومات الكافية التي تعزز سبل تمزيقنا للمسلمين، ونشر السيطرة على بلاد الإسلام.

وبُعث في نفس الوقت تسعة آخرين من خيرة الموظفين لدى الوزارة، ممن تكتمل فيهم الحيوية والنشاط والتحمس لسيطرة الحكومة على سائر أجزاء الامبراطورية، وسائر بلاد العرب، وقد زودتنا الوزارة بالمال الكافي، والمعلومات اللازمة والخرائط الممكنة، وأسماء الحكام العلماء والحكام ورؤساء القبائل، ولم أنسى كلمة الوزير حين ودعنا قائلا:

  • إن على نجاحكم يتوقف مستقبل بلادنا فأظهروا ما عندكم من طاقات النجاح.

أبحر همفر ناحية الآستانة مركز الخلافة الإسلامية، وكانت مهمته مزدوجة. وحيث كان من المفروض أن أكمل تعليمي للغة التركية، لغة الأتراك هناك، فقد كنت تعلمت شيئا كثيرا عن ثلاث لغات في لندن، اللغة التركية واللغة العربية واللغة الفارسية. لكن تعلم اللغة شيء والسيطرة على اللغة حتى يتمكن الإنسان أن يتكلم مثل لغة أهل البلاد شيء آخر.

ويقول همفر: سميت نفسي (محمدا) وأخذت أحضر المسجد (مكان اجتماع المسلمين لعبادتهم) وراقني النظام والنظافة والطاعة التي وجدتها عندهم، وقلت في نفسي: لماذا نحارب نحن هؤلاء البشر؟ ولماذا نعمل من أجل تمزيقهم وسلب نعمهم؟ هل أوصانا المسيح بذلك؟ لكني رجعت فورا واستنفرت من هذا التفكير الشيطاني، وجددت العزم على أن أشرب إلى آخر الكأس.

وقد التقيت هناك بعالم طاعن في السن أسمه أحمد أفندي وكان من طيب النفس ورحابة الصدر وصفاء الضمير وحب الخير، ما لم أجده في أحسن رجال ديننا، وكان الشيخ يحاول ليله ونهاره في أن يتشبّه بالنبي محمد، فكان يجعله المثل الأعلى، وكلما ذكره فاضت عيناه بالدموع. ومن حسن الحظ أنه لم يسألني -حتى مرة واحدة- عن أصلي ونسبي، وإنما كان يخاطبني (محمد أفندي) ويعلمني ما كنت أسئلة ويحن عليّ حنوا كبيرا لما عرف أني ضيف في بلادهم جئت لأن أعمل، ولأجل أن أكون في ظل السلطان الذي يمثل النبي محمد، فقد كانت هذه حجتي في البقاء في الآستانة.

استمر الحال وبعد عامين تلقى الرفاق التسعة الآخرون أوامر من الوزارة لحضورهم إلى لندن كما تلقيت أنا أيضا، ولكن لسوء الحظ لم نرجع إلا ستة فقط. أما الأربعة الآخرون فقد صار أحدهم مسلما وبقي في مصر كما أخبرنا بذلك السكرتير، لكن السكرتير أظهر ارتياحه بأنه لم يفش السر.

وألتحق أحدهم بروسيا وقد كان هذا من أصل روسي، وكان السكرتير يبني قلقا شديدا حوله ليس لأنه ألتحق بالوطن الام ولكن من أجل أن السكرتير كان يظن أن الرجل كان جاسوسا للروس في وزارة المستعمرات ولما انتهت مهمته رجع إلى بلاده. وكان الثالث قد مات في مدينة عمارة (بلد في طرف بغداد) على أثر وباء اجتاح البلاد هناك على ما أخبرنا السكرتير بذلك. أما الرابع فلم يعلم أحد عن مصيره إذ راقبته الوزارة حتى وصوله إلى (صنعاء) في اليمن من بلاد العرب، وكانت تقاريره ترسل بانتظام إلى الوزارة فترة سنة، ثم انقطعت بعد ذلك.

وكلما حاولت الوزارة الاطلاع على أحواله لم تحصل على شيء. وقد كانت الوزارة تعتبر خسارة كل واحد من العشرة كارثة، حيث كنا نحسب لكل إنسان حسابا دقيقا. فنحن أمة قليلة العدد كبيرة المهام، وفقد كل إنسان من هذا الطراز كان كارثة عندنا.

[يتبع]